كتب وليد فريجي في "نداء الوطن":
حين تختار الأقدار ما لا يعلمه البشر، قد تتحول السمات البشرية الطبيعية إلى صفات ممسوسة بالطغيان والاستبداد وملوثة بموبقات البطش، فتصبح مريضة ومكلومة بمحور "الأنا"، وتتحول إلى عُقد يتمحور من حولها العالم. توصيف ندرجه لتظهير تدرّج بشار الأسد على مقاعد الطغيان حتى بات النموذج الأسوأ في التاريخ الحديث، مضرب مثل لطغاة العصر.
لم يكن مقدراً للأسد الابن أن يتسلم مقاليد الحكم، اختياره للسلطة كان مستبعداً في ذهنية الأب الطامع في وريث يشكل ضمانة لعرين السطوة والقمع وكمّ الأفواه، ولإدارة بلد معقد في تركيبته.
عاد بشار من عاصمة الضباب لندن طبيباً دمث الخلق، متأنقاً بمثاليات المجتمع البريطاني التي تعاكس نهج العائلة الأسدية، فاقداً لأهلية تسلم زمام السلطة وهيبتها، باهت الكاريزما فارع الطول بلدغة تثير الضحك.
شاءت الأقدار أن يتسلم بشار الأسد مقاليد الحكم في سوريا، بعد وفاة والده في العام 2000، ليصبح في الرابعة والثلاثين من العمر، رئيساً عن طريق استفتاء لم يشهد أي معارضة.
تتلمذ الشبل هزيل الحضور، على يدي والده الملطختين بمجزرة حماة في العام 1982، يوم دمرت قوات الأسد مدينة بأكملها لمواجهة مجموعة مسلحة، ضخّ نفحة مفخخة من الانفتاح ليعيد تكميمها، ويعتقل المفكرين والمثقفين المشاركين في ما عُرف حينها بـ "ربيع دمشق".
شكلت ثورة 2011 تاريخاً مفصلياً في جنوح الأسد إلى جنون العظمة والطغيان والاستبداد، متفوقاً على والده في سياسة القمع والإجرام وسفك الدماء، والتفنن بوسائل التعذيب لشعبه وقتل الأطفال بالبراميل المتفجرة والاعتقال، ملحقاً أضراراً هائلة في المدن والبنى التحتية.
قلب الابن الطاولة على روؤس معارضيه وأظهر وحشية في مصادرة أصواتهم والتي تعارض نهجه وتعليبها بأسيد حارق خلف قضبان سجونه في صور قبيحة سيوثقها التاريخ.
التحول تكتيكي من طبيب نظر متخصص في لندن إلى طاغية العصر، تفنّده طبيبة علم النفس العيادي والمرضي الدكتورة ريتا هيكل حسون عطالله، قائلة: "الجواب من ناحية دراسات علم النفس موجود ضمن اختصاص علم النفس الجنائي وهو دراسات حول الأمراض والاضطرابات والعلل والشذوذ النفسية وسائر الأحوال النفسية التي تؤدي إلى ارتكاب جرائم ضد المجتمع".
تضيف عطالله: "ترتكز هذه الدراسات على جوانب السلوك وهذه السلوكيات تعتبر معادية للمجتمع. إذ ثمة أسباب متعددة ينتج عنها هذا السلوك وطرق العلاج بوظيفة علم النفس الجنائي. الدراسات والعوامل التي تؤدي إلى هذه الجرائم متعددة، يجب الإضاءة على الناحية العقلية والذهنية والجهاز العصبي للمتهم. هذا ما يبرر لجوء المحاكم في لبنان إلى الاستعانة باختصاص علم النفس الجنائي لتحديد الحالة النفسية والعقلية أثناء ارتكاب الجريمة والقدرة على الإدراك والوعي والأهلية".
وعن العوامل التي تجعل من الشخص طاغية تقول عطالله: "شخصية الطاغية تعني، شخصية اضطرابية مع سلوكيات معادية ومؤذية للمجتمع. الدراسات الحديثة أثبتت تداخل عوامل عدة أدت إلى سلوك غير سوي اجتماعياً".
وعن المسببات أو العوامل التي تؤثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لظهور هذا السلوك المعادي للمجتمع، تشير عطالله إلى "أحداث الحياة والصدمات التي اختبرها في الطفولة، خصوصاً في حال لم يتمكن من تخطيها. وبحسب الدراسات إذا كانت الصدمات أكبر من قدرة الشخص على تحملها كالحروب، عندها لا يمكنه تخطيها وقد يكون عالقاً بالصدمة أو الاكتئاب".
تتابع عطالله: "ثمة خصائص بيولوجية واجتماعية لدى الفرد، كعمر الشخص ومعتقداته وتقاليده التي تربى عليها، وهناك بعض المعتقدات تشجع على هذه السلوكيات لأسباب معينة كحماية سلطته. ولا بد من لفت الانتباه إلى نوع الشخصية وإذا كان من الأشخاص الذين يميلون إلى الحزن أو القلق أو العصبية. إذاً، العوامل التي تؤثر في ظهور سلوك معادٍ للمجتمع متعددة منها جينية، وراثية، تربوية، بيئية وعقائدية، ومكتسبات من تجارب الحياة.
بالنسبة إلى الأمراض والعُقد التي تصيب الطاغية، فقد أثبتت الدراسات الحديثة، بحسب عطالله، أن "ارتكاب الجرائم المعادية للمجتمع تنتج عن اضطرابات نفسية متعددة أبرزها، نقص في استعمال القدرات الذهنية لأسباب داخلية كالعته، وخارجية كالمخدرات، نقص في الإدراك والتمييز والتحليل مثل الفصام واضطراب ذي القطبين، والوهم في الإدارة العقلية والتنفيذية كالانحرافات".
كما أثبتت دراسات علم النفس الحديثة أن "النقص في القدرات العقلية قد يؤدي أحياناً إلى سلوكيات معادية للمجتمع، بسبب عدم القدرة على الإدراك والتمييز والفهم والتفكير بطريقة صحيحة. ومن أبرز هذه الاضطرابات التأخر العقلي، الاضطراب المزاجي، انفصام الشخصية، الحالات العصابية النفسية كالخوف، هاجسية قهرية والذهان، بحسب عطالله".
من الواضح أن بشار الأسد، خليط مركب ومتجانس من هذه الأمراض والاضطرابات، عالق في تربية ومعتقدات الأسد الأب لناحية الطباع الباردة والشخصية الغامضة والصبر واستثمار عامل الوقت لصالحه.
التناقض المركب في شخصية الأسد، يظهر ازدواجية في الشخصية بين طبيب العيون المولع بشغف الموسيقى الغربية الذي فقأ أعين خصومه، وذاك الطاغية الذي سخّر كل الأدوات الإجرامية خدمة لأجندته الدموية.
هذا النموذج الذي أسقط كل المعايير الإنسانية وبدلاً من أن يكون رمزاً للتجدد والانفتاح، يعيد إلى الأذهان صورة الطبيب النفسي والشاعر المتيم بالموسيقى رادوفان كاراديتش، وبدلاً من أن يكون رمزاً للقيم الإنسانية، قاد الفصائل الصربية لارتكاب المجازر بعد أن تحول إلى الرأس المدبر لجرائم الإبادة ضد مسلمي البوسنة.
هرب بشار الأسد في ليلة "ما فيها ضو قمر" تاركاً خلفه المجد الموهوم، كاشفاً سقوطه المدوي، فظائع وحشية قلّ نظيرها، سيلحقها التاريخ الحديث بقائمة الطغاة على مر العصور. سقط بشار الأسد مسقطاً معه حقبة سوداء في تاريخ سوريا.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك