دستور العراق فيدرالي. هذا ما اتفق عليه قادة المعارضة في العهد الصدامي وأقره مجلس الحكم في قانون الإدارة الانتقالي، وثُبّت في الدستور الذي أقر باستفتاء عام فأصبح من المسلّمات في عهد ما بعد التغيير. إلا أن هذا المبدأ نتج عنه بناء مختل غير متوازن. فالإقليم الفيدرالي الوحيد هو إقليم كردستان، والمحاولات التي جرت لإنشاء أقاليم أخرى كلها تعثرت وفشلت.
لماذا نقول إن هذا البناء مختل؟ كل العراقيين، بمن فيهم المواطنون العراقيون في إقليم كردستان، يشاركون في الانتخابات الوطنية ولهم تمثيلهم في البرلمان ويمكن للكتل البرلمانية التي تمثلهم أن تشارك في الحكومة الفيدرالية وهذا حقهم طبعا.
الوزراء من الكتل الكردستانية يشاركون شأنهم شأن أقرانهم من الكتل من خارج الإقليم في صياغة وتنفيذ السياسات، التي تتعلق بالصحة والتعليم والأمن والموارد المائية والزراعة والصناعة والنقل وغير ذلك في كل أنحاء العراق. إلا أن زملاءهم ونظراءهم من خارج الإقليم لا يحق لهم رسم وتنفيذ هذه السياسات في إقليم كردستان لأنه يحتفظ بهذه الصلاحيات لحكومة الإقليم. هذه علاقة غير متوازنة.
لكي نعيد التوازن إلى هذه العلاقة ونبني دولة فيدرالية (وليست كنفيدرالية) حقيقية يمكن أن تصمد أمام متغيرات المستقبل وتحدياته، علينا أن نعالج هذا الخلل.
ولقد طرحت في مجلس الحكم الحل الذي يعالج هذا الخلل إلا أنه للأسف لم يحظ بموافقة الإخوة الأكراد، ولم يؤيده بعض الآخرين مسايرة لهم.
الآن وقد مضت سنوات طويلة على ذلك وتبينت عيوب هذا الوضع ومررنا ولا نزال بتجارب صعبة كثيرة، وتوصل الجميع إلى قناعة بأن لا حل في العراق إلا بأن نتعايش تحت مظلته التي تتسع للجميع، لكن بشكل عادل ومتوازن، علينا أن نعيد النظر في البنية الفيدرالية ونعيد ترتيبها للمستقبل المتوسط والبعيد.
الحلول التي طرحت في الساحة السياسية إلى حد الآن بضمنها مشروع بايدن لتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم فيدرالية، كانت لها رائحة طائفية نتنة، وكانت لو تحققت ستنتهي بنزاعات مسلحة تزيد النسيج الوطني ضعفا وتمزقا. لذا وقفت ضد مشروع بايدن بقوة عندما كنت سفيرا في واشنطن، وأصدرت تصريحا وزعته على كافة أعضاء مجلس الشيوخ ومجلس العموم في الكونغرس، رفضت فيه الفكرة. وكان تصريحي موضع اعتراض وانتقاد من الرئيس جلال الطالباني، تحوّل بعد نقاش طويل إلى الاتفاق على الاختلاف والقبول بالموقف الذي اتخذته على مضض.
الحل بسيط للغاية. هناك إقليم كردستان المؤلف من ثلاث محافظات زائدا ما يمكن أن يضاف إليها بعد أن يصار إلى تفعيل المادة 140 من الدستور بطريقة مُرضية لكل الأطراف. ما تبقى من العراق يأتلف في إقليم واحد يتفق على تسميته، ولنُسمِّه الآن إقليم بغداد ويضم كل محافظات العراق عدا إقليم كردستان، تكون له حكومته التي تدير كل شؤونه. في هذه الحالة تكون الحكومة الاتحادية بالصلاحيات التي حددها الدستور ومنها الدفاع والعلاقات الخارجية. الجميع له الحق بالتساوي في المشاركة في الحكومة الفيدرالية. أما حكومة إقليم كردستان وحكومة إقليم بغداد فيدير كلا منهما المنتسبون إلى الإقليم المعني.
هذا الحل له ميزات عديدة: فهو يتجنب المطب الطائفي فلا نزاع على حدود تفصل إقليم للشيعة عن إقليم للسنة. الكل مشترك في إقليم واحد. ثم أن هذا الحل يقلص الحكومة الفيدرالية إلى الحد الذي قرره الدستور وبذلك تكون أجهزتها وميزانيتها محدودة وواضحة، وينقل المسؤولية للإدارة في القطاعات المختلفة إلى حكومة إقليم بغداد أسوة بما يجري في إقليم كردستان. ويمكن في هذه الحالة إعادة توزيع الصلاحيات داخل الإقليم بين حكومته ومجالس المحافظات والمجالس البلدية بشكل يساعد على تحسين الأداء وتقليل المصاريف والحد من منافذ الفساد.
هذا هو النظام الفيدرالي المتبع في بلدان كثيرة، ومنها الولايات المتحدة والهند وباكستان والصين وإسبانيا وروسيا وكندا. أما الفيدرالية على شاكلة العراق فلم أجد لها مثيلا في أي بلد آخر.
العراق من أصغر الدول الفيدرالية. فهو بحجم كاليفورنيا مثلا. من ذا الذي يتحدث عن تقسيم كاليفورنيا إلى أقاليم فيدرالية مثلا، كأن يكون الشمال إقليما للبروتستانتية لغته الإنكليزية والجنوب يكون للهسبانك الكاثوليك الناطقين بالإسبانية؟ لا تخطر مثل هذه الحماقة على بال أحد في كاليفورنيا. إلا أننا في العراق مررنا في تاريخنا الحديث بنكبات وهزات عنيفة وصراعات أوصلتنا إلى هذا الوضع. فلنتقبل مبدأ الفيدرالية ولكن بأقل تفتيت وتقسيم ممكن وبطريقة متوازنة مستدامة وهذا الحل الذي طرحته يؤدي هذا الغرض، ولذلك فهو يستحق المناقشة وبرأيي يستحق التطبيق.
هذا الحل لن يتحقق بشكل صحيح، إلا إذا أعدت له الظروف اللازمة. وأولها إصلاح الحكومة الفيدرالية ووضع العلاقة بينها وبين حكومة الإقليم على أسس دستورية سليمة، ومن ثم الاهتمام بالمواطنين العراقيين في كردستان ورعايتهم وحمايتهم والترويج لثقافة المواطنة بينهم. ومن خلال ذلك إعادة بناء وتكريس هويتهم العراقية والتغلب على الشحن القومي الانفصالي.
في المقابل ينبغي مكافحة النزعات الشوفينية في عموم العراق، وتوطيد القناعة في كل أنحائه بأن مصلحة الجميع تقتضي إشاعة مفاهيم المواطنة والتعددية وبناء الدولة وصناعة سياساتها على هذا الأساس. وعند انتصار هذه المفاهيم وسيادتها يطمئن الكل، وتصبح إعادة الهيكلية الفيدرالية أقرب إلى الترشيد الإداري منها إلى المنافسة القومية.
أما إذا طبق هذا المقترح في أجواء مشحونة بالمخاوف والمواجهات والتحشيد القومي، فإنه قد يؤدي إلى عكس الهدف المتوخى منه ويكون تمهيدا للانفصال.
الفوائد التي يمكن أن تتحقق من هذا الحل كثيرة. أهمها، إلى جانب تطبيع الهيكلية وجعلها تتماشى مع الأعراف المتبعة في العالم، تقليص نفقات الحكومة الفيدرالية، وتقريب حكومة إقليم بغداد من مواطنيها وبذلك جعلها أكثر ديمقراطية.
وهكذا يكون هذا الإصلاح مكمّلا للإصلاحات الأخرى لتحويل العراق إلى دولة عصرية كباقي الدول تشق طريقها إلى النمو واللحاق بركب البشرية في هذا القرن الواحد والعشرين.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك