عندما كان أحد الرّسل يتوجّه بالسؤال الى السيّد المسيح، كان الجواب مسبوقا دائما بعبارة "الحق الحق أقول لكم". والحق هنا هو الرأي الشافي أو الكلام الصواب الذي يطابق اليقين، أو ما هو صحيح وثابت ولا يقاربه شك. وقد زعزع كلام الحق هذا سيرورة الزمن، وحوّل محور الكون انساني، واستنادا اليه، قسّم التاريخ نفسه الى "ما قبل" و "ما بعد".
لقد قرأ أفذاذ الهرطقة في السياسة عندنا كلام المسيح، فلم يتأثّروا بمضمونه، لكنّهم تبنّوا أسلوبه. وراحوا يخاطبون الجموع على طريقة الأنجيل: " أمّا نحن فنقول الصدق". وتوهّموا أنّهم بذلك ينالون الشهرة على خطاب مقتبس ممسوخ، وكأنّهم لم يعرفوا أنّ الشهرة ما كانت يوما وقفا على ما هو خير وحق. فجاء كلامهم كإناء ممتلئ بالتخرّصات ورؤى الصحراء. ولعلّ أبرز هؤلاء الميامين، ذلك الذي يوهم الحشود بأنّه الثائر الأوحد في سبيل الأفضل، والتغييري الأمثل في سبيل الأصلح، والناقم ضد الكل، والمعترض الدائم عندما يقول كلمته بعنف. حتى لنحسبه يبشّر بنبيّ جديد، أنطلاقا ممّا يتهيّأ له في زوغانه المرضي أنّ الناس يقولون له: نحن نطمع في الحصول منك على بعض الحقيقة التي تملكها، فنرجوك أن تظهر لنا ما لم ينكشف لنا.
ليس الشعب برمّته سريع التصديق. وخصوصا مع ذلك الذي يختبئ وراء شعار أنّه المظلوم الأبدي، فهذا ألأسلوب كان دوما معقله الحصين، لكنّه لم يعد ينطلي على أحد. فالكل يعلم أنّ الوطن مشنوق بحبل نزواته الرخيصة، وأنّه يمارس في السياسة سياسة السوط، وأنّ السلطة هي فردوسه المفقود الذي توهّم أنّه يعرف سبيل الوصول إليه، وأنّه تزوّج في ذهنه من الوطن، ثم مات الوطن في ذهنه، فعاد حاملا في ترمّله ولدا مسخا أسمه الحقد.
وأذا كان الصدق هو التصريح بالحقيقة ومطابقتها، وعلى هذا الأساس يتّصف الصادق بالأستقامة والثقة والبعد عن التدليس والمخادعة وأطلاق الشعارات. فهل يكون مسموحا بعد، عندما نستمع الى مهرّجي السياسة، ألاّ تصاب قابلية التصديق لدينا بالفتور؟ فهؤلاء صدّوقيون (نسبة الى الكاهن اليهودي صدّوق الذي أنكر خلود النفس فكان مهرطقا)، الذين يسبّب كلامهم التكدّر، ويصدم العقل فتنزل به كارثة الشك والأشمئزاز، والذين ينفقون كلامهم على ترّهات باطلة خالية من أيّ نفع، ويرشح السمّ من ألسنتهم والترياق مفقود، من الأجدى أن يوضع غلاف واق في الآذان كي لا تتأذّى الأسماع بتوافههم.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك