لم يكن سهلاً على الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ان يوفق في خطابه أمس الأول بين موقفه المبدئي في رفض التعامل مع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وتوجيه أقسى الإتهامات إليها، وبين تمرير قرار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بتمويلها من دون تفجير أزمة حكومية كبيرة.
ولكن القريبين من نصرالله يقولون انه اعتمد المبدأ نفسه الذي تعامل به مع الاتفاق الذي حمله إليه المبعوثان القطري والتركي خلال الأزمة الحكومية قبل عشرة أشهر والتي إنتهت بسقو ط حكوة الرئيس سعد الحريري.
وقد حرص السيد في خطابه على أن يؤكد أن المصلحة الوطنية لديه تعلو على المصلحة الحزبية، وبالتالي إعتبر ان هذه المصلحة الوطنية اليوم في لبنان هي في تجنيب البلاد أزمة حكومية قد تتحول أزمة سياسية، فأزمة وطنية.
ولقد كان حريصاً في خطابه، حسب مراقبين سياسيين، على أن يخاطب جمهوره وحلفاؤه، في الوقت الذي كان حريصاً أيضاً على أن يخاطب اللبنانيين جميعا، ليؤكد لهم أنه، وإن كان رفض التعامل مع المحكمة، فهو لن يُسهِّل على الراغبين باستغلال هذه القضية تفجير الفتن والصراعات في لبنان، وبهذا تحلّى موقفه، حسب هؤلاء المراقبين، بـ"تلازم الوطنية والحكمة في آن معا، فالوطنية في هذه الظروف تقتضي أعلى درجات الحكمة، والحكمة اليوم هي حصن الوطنية ورادعة كل المتآمرين على لبنان بشعبه وجيشه ومقاومته،.
وبالتأكيد، يضيف المراقبون انفسهم، أن نصرالله الذي ظن كثيرون أنه سيرتبك أمام قرار ميقاتي بتمويل المحكمة، قد فاجأ المعارضة ووضعها هي في حال من الإرباك، فهي لا تستطيع ان تُرسّخ صورة ميقاتي كرئيس مستقل عن ضغوط حلفائه، لأنه بات يمثل حيثية فاعلة في بيئته، ولا تستطيع في المقابل ان تهاجم قراره الذي طالته باتخاذه منذ اللحظة الاولى لتكليفه تشكيل الحكومة، وراهنت بالتالي على عدم قدرته على ذلك.
ويسخر بعض السياسيين في الأكثرية حالياً من مقالة كتبها نائب سابق ينتمي الى تيار رئيسي في المعارضة في صحيفة رئيسية من صحفها، وتوقع فيه أن يُسقِط السوريون حكومة ميقاتي، فجاء قرار الأخير في اليوم نفسه الذي نُشر فيه هذا المقال، ومن ثم انهالت مواقف الترحيب بهذا "القرار الميقاتي"، خصوصا لدى رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي يعترف الجميع له بدوره البارز في إيجاد هذا "المخرج البارع" لقضية التمويل، ولم يكن السيد نصرالله أقل براعة من بري في التعامل مع هذا القرار ففوت من خلال خطابه الفرصة على مصطادين كثر في المياه اللبنانية العَكِرة.
ويرى سياسيون ان السيد نصرالله، كعادته، تعامل مع هذه المسألة اللبنانية الحساسة من منظور رؤيته الشاملة للاوضاع في المنطقة التي تتحول سريعاً الى مسرح عمليات واحد، يتواصل فيها العامل العربي بالعامل الاقليمي والعامل الدولي، فحين تتحرك بوارج روسية في اتجاه الساحل السوري وحاملة طائرات اميركية الى مكان قريب من هذا الساحل يُدرك نصرالله ان المنطقة عموماً، وسوريا ولبنان خصوصاً، أمام حرب عالمية أعلن رئيس "المجلس الوطني السوري" المعارض برهان غليون أهدافها حين قال أن أول ما سيفعله مجلسه لدى وصوله الى السلطة هو قطع علاقة سوريا بحركة "حماس" و"حزب الله" وإيران، وبذلك حسم غليون في تصريحه هذا الى صحيفة "وول ستريت جورنال" جدلاً كان يدور بين قيادتي حزب الله وحركة "حماس" وبين بعض معارضي النظام السوري عندما كان يقول هؤلاء الأخيرون للحزب و"حماس" أن "الأوضاع في سوريا ستبقى الى جانبكم، فلماذا تسكتون عن هذا النظام؟".
ويدرك نصرالله حسب هؤلاء السياسيين أيضاً ان قرقعة التهديدات الإسرائيلية ذات الأشكال المتعددة، وخصوصاً في الموضوع النووي الإيراني، لا تنفصل عن تلك التحركات الأميركية والأوروبية والتركية والرسمية العربية.
وهؤلاء السياسيون يدركون من جهتهم أن السيد نصرالله واثق من أن نصيب هذه الحملة الجديدة من النجاح سيكون ضئيلاً، إن لم يكن معدوماً، فهو بثقافته الواسعة يعرف أن سوريا كانت في الخمسينات مثلاّ مطوقة من كل الدول المحيطة بها، ومن حكومات تركيا والعراق والاردن آنذاك، بالإضافة الى إسرائيل، ومع ذلك لم تنجح سوريا في كسر عزلتها فقط، بل إنتقلت الى تأسيس وحدة مع مصر برئاسة جمال عبد الناصر عام 1958. ويذكّر المراقبون هنا بأن سوريا حينها كانت تدفع ثمن تضامنها مع مصر في وجه العدوان الثلاثي الشهير وتساند ثورة الجزائر في وجه الاستعمار الفرنسي، فتعرضت الى كل ما تعرضت له من ضغوط، تماما كما هي حالها اليوم بسبب دعمها للمقاومة الفلسطينية واللبنانية ورفضها قطع العلاقات مع ايران، وهو أمر يقول كثيرون أن فشل باريس وأنقرة والدوحة في تحقيقه خلال السنوات الماضية هو الذي أدى الى هذا الغضب الفرنسي - التركي ـ القطري الشديد على الرئيس بشار الأسد، الى درجة أن هذا الغضب أدى برئيس وزراء قطر الشيخ حمد بن جاسم الى إعلان حكومة رجب طيب اردوغان عضواً كاملاً في جامعة الدول العربية، وربما لن يكون بعيدا اليوم الذي يرى الرأي العام فيه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، أو وزير خارجيته آلان جوبيه، أو رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، أو وزير خارجيته وليم هيغ، أو الرئيس الاميركي باراك اوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، حاضرين في جامعة الدول العربية التي كان الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز يطمح يوماً الى أن يكون لإسرائيل كرسيا دائما فيها.
وفي هذه السياق يروي أحد السياسيين البارزين من زوار دمشق ان أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أبلغ الى قطب سياسي لبناني كبير في فريق الاكثرية إلتقاه في الدوحة بُعيد أشهر من إندلاع الأزمة السورية في منتصف آذار الماضي الآتي:
"لقد عرضنا على الأسد مبلغ 15 مليار دولار دعما للاقتصاد السوري مقابل فك تحالفه مع إيران فرفض، ولذلك قررنا صرف هذه المليارات الخمسة عشر لإسقاط نظامه".
وبغض النظر عن هذه الواقعة سواء كانت بهذه الدقة أم لا، فإن الاوساط السياسية على إختلاف مشاربها، تؤكد أن الوضع في سوريا بعد الإنسحاب العسكري الاميركي نهاية الشهر الجاري من العراق، سيكون غير ما كان عليه قبله.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك