شكل تضخيم مسألة التمويل اللبناني للمحكمة الدولية ونفخه طوال اشهر اعقبت تأليف الحكومة جزأ اساسيا من خطة ترسيخ الواقع السياسي الذي مكن قوى الاكثرية الراهنة من اقصاء قوى 14 آذار عن السلطة. ولم يكن المخرج المبتدع للتمويل واقعيا سوى تتويج لهذا المنحى الذي وضع نصب اعين اصحابه التمديد ما امكن لهذا الاقصاء ولو بمعايير الخصم نفسه وعلى حساب خسائر لا تحتمل أي تقليل في صفوف رافضي المحكمة وتمويلها.
ولعل المفارقة الساخرة التي يمكن التقاطها على عجل في هذا السياق هي ان "التيار الوطني الحر" والامانة العامة لـ14 آذار لم يلتقيا مرة منذ 2005 على الاقل الا على انتقاد مخرج "التمويل المهرب" عبر حساب لرئاسة الحكومة او الهيئة العليا للاغاثة. مفاد ذلك ان على ضفتي الانقسام من بات يضيق بالتسويات المبتدعة على حساب الاصول ولو لدوافعه. ولكن العالم لا يعرف بلدا كلبنان تتقن فيه طبقته السياسية فن التسويات "الزاروبية" لا بل ان هذه الطبقة تبدو اقوى واشد سطوة من كل نظام في قدرتها المستولدة والمستدامة على ابتداع انظمة من خارج النظام والالتفاف على المآزق بالتسويات الظرفية. كلمة ساحرة مخدرة تفضي الى تمرير أي بدعة هي "الاستقرار" منذ ان شقت الظاهرة الاولى بعد الطائف الطريق الواسعة للالتفاف على النص والامعان في توسيع أوردته وعروقه وشرايينه. لا يقاس تمويل مبتدع للمحكمة من خارج القنوات المتبعة اصولا والذي صفق له الجميع كل من منظار مصلحة او موقع ثابت او ظرفي بما سبقه في هذا المراس الطويل. لم يكن الطائف قد بلغ عمر المراهقة حين قامت "الترويكا" الرئاسية نظاما فوق النظام. وما ان لامس عمر الورود حتى انطلقت بدعة التمديد، ثم أفتي بانتخاب قائد للجيش رئيسا للجمهورية، ومدد للرئيس نفسه ثانية، وانتخب قائد جيش آخر رئيسا. وبعد ذلك حلت معادلة ثلاثية في بيانات الحكومات المتعاقبة امرا واقعا يتجاوز الدولة وسلطتها الاحادية ويضع "جيشها وشعبها ومقاومتها"في مصاف المقدسات الفوق النظام.
هذا في البدع الكبيرة والعملاقة فكيف في ما دونها مرتبة على مستوى "انظمة" وانماط وسياسات شخصانية فاقعة في الوزارات والادارات والاقطاعات يفرضها كل وزير مستقويا بكل ما تشحنه به هذه النمطية السلطوية؟
وماذا اساسا عن رئاسة مجلس نيابي هي الشريك المضارب دوما للسلطة التنفيذية ببراعة مستدامة وتسليم عام؟ وماذا عن مئات البدع المتراكمة التي تنؤ بها تجربة الطائف منذ عهد الوصاية الى ايامنا الزاهرة؟
لن يغص اللبنانيون حتما بواحدة اضافية اتاحت تمرير التمويل وتأجيل كأس المواجهة مع المجتمع الدولي الى آذار. ولكنها مفارقة ساخرة فعلا ان يغدو الانقاذ موقوفا على التمييز اللفظي بين "الدولة" و"الحكومة"،كأن المكاسب والخسائر تبحث عن غطاء للاحتواء وللتمويه ،ودولتنا تتسع دوما لمزيد من هذا الترف.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك