منذ ما يقارب السنة تشهد المنطقة والعالم جملة تطورات تبدو كبركان خرج عن طور الهمود وبدأ برمي حممه الساخنة على المحيط. والمتتبع لسيل التراكمات يجد ببساطة ان خطوط التقاطع توصل إلى نقطة ليست مخفية بل واضحة هي الولايات المتحدة الأميركية.
واذا كان ما اصطلح على تسميته (الربيع العربي) قد بدأ، ربما، قبل أوانه في تونس التي كانت تشكل (محمية اميركية)، إذا جاز التعبير، حيث كانت مراكز القرار ترسم السياسات الأميركية للمغرب العربي من الجزائر إلى اليمن إلى الخليج، وربما ابعد، ومن تونس امتد (الربيع) إلى مصر التي حمت الادارة الأميركية نظامها على مدى عقود من الزمن مبقية فرعون مصر على رقاب شعبها داعمة له بكل ما يفتت الوحدة العربية التي بقيت اثراً بعد عين، وفارضة عليه متى يفتح المعابر إلى فلسطين المحتلة ومتى يبقيها مقفلة حتى على المساعدات الانسانية.
ولم يتوقف (الربيع العربي) عند حدود مصر، بل أعطى بعض بوادره إلى ليبيا الطاغية القذافي الذي نسيت الادارة الأميركية مجازره وارهابه مقابل حفنة من العقود النفطية على قاعدة التعويض وتوزيغ المغانم، والتسويات المالية لـ (لوكربي)، وكمٍّ من المعلومات الاستخباراتية التي فتح القذافي خزائنها للمخابرات الأميركية لتتمكن من ملاحقة من تدعوهم (ارهابيين) على مساحة العالم، وفي مقابل تمويل الحملة الانتخابية للرئيس الفرنسي ساركوزي، والدعم لرئيس الوزراء الايطالي برلسكوني الذي نسي البروتوكول وعناوين الديبلوماسية وانحنى للطاغية.
كل هذا حدث في لحظة سياسية حرجة بالنسبة للادراة الأميركية المنتشرة قواتها العسكرية تحت ألف مسمى على مساحة العالم، من افغانستان لملاحقة (فلول القاعدة)، إلى العراق بحثاً مضنياً عن اوهام اسلحة الدمار الشامل، إلى امتدادتها الاخطبوطية بالذراع الصهيوني لاخضاع لبنان ودول المقاومة والممانعة كمثل سوريا والجمهورية الاسلامية في ايران.
اميركا المنشغلة بهزائمها والفشل في ترتيب حتى انسحاب يحفظ ماء الوجه من العراق، والملفات الباقية العالقة في العالم، وازماتها الاقتصادية المتوزعة على دول وعواصم عالمية انتفضت تريد اسقاط الهيمنة الاقتصادية وكل الكارتلات والتكتلات المالية المتحكمة في قوت العالم وغذائه، انتبهت اميركا إلى ان سقوط الانظمة التي دعمتها على مدار عقود لتحرك خيوطها في اللحظات الحرجة، وعدم قدرة من تبقى من تابعيها في المنطقة على لعب الدور الفاعل في تنفيذ أجنداتها المتعددة الاهداف والعناوين والغايات، سوف يجعل من دول المقاومة والممانعة على قدرة اكبر على الحراك الذي كانت تحد حركته في أكثر الأحيان، وتمنعه الأنظمة المتهاوية، مما استوجب التحرك الأميركي السريع والمتسرع للتعويض ونقل الاضواء الاعلامية، على الاقل، إلى ساحات دول الممانعة والمقاومة، ولو بعناوين براقة من الخارج ولكنها هدامة من الداخل لعدم انطلاقها من ارادة الشعوب وانما من تنفيذ المصالح الأميركية ومشاريعها.
ولكن حساب البيدر الأميركي لم يتوافق مع حساب الحقل في دول الممانعة والمقاومة، فالحملة (النووية) على ايران لم تفلح في وقف البرنامج النووي السلمي الايراني بعد سحب الجمهورية الاسلامية لكل الفتائل المتفجرة التي فخختها الادارة الأميركية في عواصم العالم لتنفجر عقوبات اقتصادية او سياسية او حتى تجارية على ايران، ولم تنجح محاولات زرع الفتن الداخلية فيه لإصرار الشعب الايراني على ثقته بقيادته وحكمتها في معالجة الامور ومواجهة التحديات، وفعلاً ربّ ضارة نافعة، فإيران استطاعت تجاوز القطوع الاقتصادي في مجالات شتى من الزراعة إلى الصناعة والتقانة والمشاريع الاقتصادية وحتى تكرير النفط وانتاج مادة البنزين بما يوصل إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، بل وربما التصدير أيضاً، في نفس الوقت الذي لم تساوم فيه الجمهورية الاسلامية الايرانية على المبادىء التي التزمت قناعة بها في الوقوف إلى جانب الحق ومواجهة الظالمين، مما ادى بالادارة الأميركية إلى انتاج (فيلم هوليودي) على طريقة (جيمس بوند) من خلال نشر افتراءات وادعاءات، لم تصدقها حتى الصحافة الأميركية والغربية حول محاولة اغتيال خطط لها ايراني ضد سفير عربي في واشنطن، وبقيت تدور في فلك المزاعم والاوهام والدسائس، خصوصاً وان المُدعى عليه يحمل الجنسية الأميركية وبالتالي وحسب القانون الايراني فهو فقد جنسيته الإيرانية، وهو يعيش منذ دهر في الولايات المتحدة الأميركية المعروف انها بيئة عدائية إلى أقصى حد لإيران.
والهدف الواضح من هذه المزاعم الأميركية انها تريد تصوير الامر على انه سبب لفتنة طائفية ومذهبية عجزت عن زرعها في لبنان فحولتها إلى نطاق اوسع، ولكن الأغلب ان العقلاء لن تنطلي عليهم هذه (الغيرة الأميركية) المفاجئة على دول المنطقة، وحرصها غير المعهود على استقرارها.
سوريا لم تكن هي أيضاً بمنأى عن الهجمة الأميركية لضرب استقرارها من الداخل، وكانت المراهنات الأميركية على ان انقسام الشعب السوري ممكن بدعم اميركا ومساهمة انظمة ووسائل إعلام لتضليل الرأي العام وبث الاكاذيب والافتراءات وتشويه الحقائق.
وكان في المخطط الأميركي ان سوريا سوف تتآكل خلال فترة اسبوعين إلى شهر على اكثر بناء لتقدير لخبراء المخابرات ومراكز التفكير (think tanks) والبحوث، تمت تهيئة بعض العصابات لتزرع الخوف والرعب وتمارس الارهاب على الطريقة الأميركية في استهداف كل عناوين قوة سوريا، ومحاولة فرض تغيير النظام فيها بأي شكل وطريقة.
ما غاب عن الفكر الأميركي المتصهين هو ان سوريا فيها شعب اختار منذ الاحتلال الفرنسي للبلاد ان يكون في المواجهة مهما غلت التضحيات، وان الشعب السوري ملتصق بقيادته ومؤمن بوطنه ولا يمكن ان يسمح لشذاذ الافاق ان يعيثوا فساداً في ارض دفع ثمن حريتها بدماء ابنائه وشبابه. وهاهم فعلياً يتصرفون وفق قناعاتهم وايمانهم ويردون على بعض الرعاع الذين يتجمعون في الزواريب والازقة ويصورهم الاعلام المأجور ويعمم خبراً عن تظاهرات نقلاً عن (شاهد عميان)، فيرد الشعب السوري الأبي بمظاهرات تعبر عن عمق شعوره ووعيه لما يتهدد وطنه بمظاهرات مليونية تضم كل اطياف الشعب السوري المصر على وحدته وتشهد لهم ساحات السبع بحرات في دمشق وساحات حلب وغيرها من المدن السورية الكبرى التي تعلن على الملأ بوضوح التصاقها بقيادتها والتزامها بنهجها وخطها.
وحتى طرح اميركا لشعارات (الاصلاح والديمقراطية) من أجل إيجاد منفذ للدخول إلى التركيبة السورية المتراصة فشل، ببساطة، لأن القيادة السورية برئاسة الدكتور بشار الاسد كانت قد اطلقت عملية اصلاح متناغمة مع رزنامتها ووفق أولوياتها في شتى الميادين من اجل تطوير سوريا ونقلها إلى مرحلة متقدمة من الادارة السياسية والادارية والقانونية، وهذه العملية النابعة من حاجات سوريا الداخلية وإيمانها بها كخطوة للتقدم والرقي، تختلف تماماً عن دعوات العصابات إلى الاصلاح بدون برنامج وبدون تخطيط للحاجات والضرورات ورسم السياسات ووضع الاستراتيجيات والخطط التنفيذية لها، وإصدارها بمراسيم وقوانين لجعلها نافذة ووضعها على سكة التنفيذ.
صمدت سوريا بقوتها الذاتية وايمان شعبها بوطنه، رغم كل الضغوطات الخارجية حتى من أقرب المقربين، وصمود سوريا وتجاوزها مرحلة الخطر يعني بكل وضوح وبساطة ان المشروع الأميركي فشل، على الرغم من كل المنازعات لوصل (حبل سرة) اميركي ـ غربي إلى بعض ممن ارتهنوا لغير بلدهم يمدهم بالمال والسلاح والإعلام، وما ان ينقطع حبل السرة هذا، وهو قريب، سيكون فقدانهم للقدرة على الحراك، بل سيتحولون، كما غيرهم ممن ركبوا في المركب الأميركي المثقوب بألف ثغرة، إلى عبء على الأميركي ومشروعه يدفعه إلى التخلص منهم.
هي بدايات السقوط، الذي سيكون مدوياً مع إعلان الإفلاس الأميركي سياسياً واقتصادياً.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك