كل يراوح مكانه. الرئيس نجيب ميقاتي يشيع الأمل في تأليف حكومته بلا استعجال، والرئيس ميشال عون يجعل من حصته العربة التي تجر الحكومة، وحزب الله داخل قوى 8 آذار الممسكة بالغالبية لا يفرّط بميقاتي ولا بعون وعينه - كسوريا - على الخارج.
على أبواب اليوم الـ60 لتكليفه ترؤس الحكومة الجديدة، لا يزال الرئيس نجيب ميقاتي تحت الوطأة المزدوجة التي تؤخر تمكنه من تأليفها: شروط الغالبية النيابية الجديدة، والغموض الذي يحوط بالفوضى الإقليمية التي تبقي لبنان في صلب التجاذبات وصراع المحاور. لا يبدو ميقاتي، في الأيام القليلة المقبلة على الأقل، جاهزاً لتوقع إبصار حكومته النور، من غير أن يوحي، في الظاهر في أحسن الأحوال، بأن الوقت يثقل عليه أو يعرّضه لإرباك جدّي يضعه أمام خيارات سلبية.
لا الدستور يقيّده بمهلة محدّدة لتأليف الحكومة، يعتذر عن عدم التأليف على أثرها. ولا رئيس الجمهورية ميشال سليمان في وارد التدخّل لديه لاستعجال التأليف ما دام يتفهّم مبرّرات التأخير، ولا يتحمّس للاستعجال، ولأنه المعبر الدستوري لصدور مرسوم تأليف حكومة يريدها أن ترضيه. ولا حزب الله وحلفاؤه في قوى 8 آذار يبحثون عن رئيس للحكومة سوى ميقاتي، ويعرفون أن الحكومة لن تكون في نهاية المطاف إلا على صورة الغالبية النيابية الجديدة.
تعبّر عن هذا المنحى معطيات منها:
1 - إن الرئيس المكلف لن يكون في وارد الاعتذار عن عدم تأليفه حكومته الثانية إذا طال أمد تعذّر التأليف.
2 - رغم أن اجتماع الرئيس السوري بشّار الأسد بنجل العاهل السعودي ومستشاره الأمير عبد العزيز، الأسبوع الماضي في دمشق، لم يتطرّق إلى الأزمة الحكومية اللبنانية، رغب الأمير الزائر - قبل أن يسهب في الخوض في أحداث البحرين - في إجراء غسل للقلوب بين والده الملك والرئيس السوري، من خلال الرسالة التي حملها إلى الأخير، في ظلّ انقطاع الاتصال بين عبد الله والأسد منذ 10 كانون الثاني الماضي. أبرز عبد العزيز للأسد مبرّرات انطوت على انهيار التسوية السعودية - السورية في لبنان، وفتح باب معاودة الحوار بين البلدين في الملفات التي يشتركان في مقاربتها.
إلا أن سياسيين لبنانيين بارزين كانوا قد حصلوا على هذه الانطباعات من مسؤول سوري رفيع المستوى، لاحظوا بعض الحرارة في الحديث عن العلاقات السعودية - السورية نجمت عن سعي الرياض إلى وقف القطيعة مع دمشق، ومبادرتها بطلب دور سوري لدى إيران لوقف تدخلها في أحداث البحرين، تأكيداً لاعتراف العاهل السعودي بالحاجة إلى وساطة الأسد في تحقيق الاستقرار في المنطقة، وخصوصاً في الخليج العربي.
وليست هذه المرة الأولى التي يضطلع فيها الرئيس السوري بدور كهذا. كان قد دُعي في النصف الثاني من السنة الماضية، في عزّ الحوار السعودي - السوري في الملفات الساخنة في لبنان) تسوية س - س بين الرئيس سعد الحريري وحزب الله) والعراق (تسمية نوري المالكي رئيساً للحكومة) واليمن) المواجهة الدامية بين الحوثيين ونظام الرئيس علي عبد الله صالح دفعت بالجيش السعودي إلى التوغّل داخل الحدود اليمنية بمقدار ما حملت الحوثيين على اختراق الحدود السعودية إلى 27 قرية سعودية). نجح تفاهم عبد الله والأسد في اليمن الذي استقر إلى حين، وأخفق في العراق بعدما عارضت المملكة المالكي، واستمهل في لبنان أشهراً إضافية إلى أن انهار تماماً مطلع السنة الجديدة.
والواقع أن أحداث البحرين، والتشجيع الإيراني للانتفاضة الشيعية في المملكة، أظهرا حتمية الحوار السعودي - السوري لإعادة الاستقرار هناك، إلا أنه يمهّد أيضاً لفتح الأبواب على الأزمة الحكومية اللبنانية.
3 - لا لبس في أن إصرار دمشق على تجاهل الأزمة الحكومية اللبنانية وعدم رغبتها في ممارسة أي ضغط على حليفيها اللذين يشتركان في التأليف، وهما الرئيس المكلف وقوى 8 آذار، يفسّر عدم استعجالها هذا التأليف. وكان عاملون على خطوط الانتقال بين بيروت ودمشق قد نصحوا الرئيس المكلف بزيارة العاصمة السورية، ومفاتحة الأسد في العقبات التي يواجهها على طريق التأليف. وقد بات حلّها يحتاج ـــــ على جاري العادة - كما مع حكومتي الرئيسين فؤاد السنيورة عام 2008 وسعد الحريري عام 2009 إلى مفتاح سحري يحمله الرئيس السوري. قيل أيضاً لميقاتي باختصار المسافة وتكليف شقيقه طه ميقاتي، بعد عودته من البرازيل، التوجّه إلى دمشق للغاية نفسها نظراً إلى العلاقة الوطيدة التي تجمعه بالرئيس السوري.
وتوخت هذه النصيحة التأكيد لميقاتي أنه لا أمل في إبصار حكومته النور بلا صدمة حقيقية وفاعلة مصدرها دمشق.
والواضح أيضاً أن الرئيس السوري سيتدخّل في التوقيت الملائم، عندما يصبح تأخير التأليف عبئاً ثقيلاً على الجميع.
4 - منذ تكليفه ترؤس الحكومة، أجرى ميقاتي أربع مقاربات لصورة الحكومة التي يريد تأليفها، أخفق فيها جميعاً:
أولى، حكومة تشترك فيها قوى 8 و14 آذار.
ثانية، يشترك فيها ممثلون لقوى 14 آذار كالنائب تمّام سلام وحزب الكتائب، ولا يكون بينهم تيّار المستقبل الذي رفض سلفاً الانضمام إلى حكومة ميقاتي.
ثالثة، حكومة يحصل فيها ميقاتي مع رئيس الجمهورية ورئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط على الثلث 1 من مقاعدها، لإحداث توازن في الحكومة بين هذا المثلث وقوى 8 آذار، وبغية استبعاد أي طابع يسمها بحكومة اللون الواحد أو حكومة حزب الله ويستفز بها المجتمع الدولي.
رابعة، حكومة تكنوقراط تمثّل مخرجاً مقبولاً وبديلاً من استمرار الأزمة الحكومية المفتوحة.
إلا أن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، رسم السبت الماضي في الاحتفال التضامني مع الشعوب العربية، إطاراً جديداً ومختلفاً لحكومة ميقاتي وفق ثلاث قواعد: لا رئيس مكلفاً سوى ميقاتي الذي سمّته الغالبية النيابية الجديدة، وهو تالياً ليس رئيساً توافقياً، الأكثرية الجديدة ستؤلف الحكومة، لا لحكومة تكنوقراط.
ورغم أن القواعد الثلاث هذه تناقض ما أشاعه الرئيس المكلف على مرّ الشهرين المنصرمين، بتأكيده تارة أنه رئيس توافقي في معرض الدفاع عن وسطيته، وأنه لا يؤلف حكومة اللون الواحد التي تمثل فريقاً سياسياً واحداً هو نفسه الغالبية النيابية الجديدة، أي قوى 8 آذار، وأنه يتحمّس لحكومة تكنوقراط يرتاح إليها اللبنانيون، حتى وإن لم تنل الثقة في مجلس النواب بيد أنها تفتح الباب على مرحلة سياسية جديدة... رغم ذلك كله لم يقع الطرفان المعنيان بالتأليف في محظور الخلاف السياسي:
- لا حزب الله يمارس ضغوطاً على حليفه رئيس تكتّل التغيير والإصلاح لتليين تصلّبه في شروط تمثيله في الحكومة الجديدة.
- ولا الرئيس المكلف يبدو مستعداً لإعطاء الجنرال ما لم يُعطه إياه أي من السنيورة والحريري في الحكومتين السابقتين، لأسباب بعضها يتصل بالصلاحيات الدستورية لرئيس مجلس الوزراء، والبعض الآخر المتعلق بالوجهة السياسية يرتبط بمقدار تسليم ميقاتي بشروط شركائه في الائتلاف الحكومي في مؤشر إلى رضوخه للضغوط ومن ثمّ التنازل بإزائها.
كل ذلك مع تيقن قوى 8 آذار من أنها - خلافاً لما يعلنه الرئيس المكلف - ستحصل على ثلثي الحكومة الجديدة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك