كتب شارل جبور في "نداء الوطن":
تدلّ المواقف التي ما زالت تصدر عن "حزب الله" على أنه لم يتّعظ، لا من قراره الخاطئ بإعلان حرب 8 تشرين، ولا من تفويته الفرص للخروج منها، ولا من نص الاتفاق الذي أوقف إطلاق النار، ولا من سقوط نظام الأسد وخروج سوريا من ساحات الممانعة، ولا من تبدُّل المعطيات الدولية والإقليمية التي استفادت منها إيران لتوسيع دورها. وهذا يعني أن "الحزب"، مصرّ على مواصلة سياسة الإنكار والانتحار والتعامي عن الحقائق ورفض التعامل بواقعية مع الوقائع المستجدة.
إذا كان "حزب الله" يظن مثلاً أن بإمكانه الإلتفاف على اتفاق وقف إطلاق النار على غرار ما قام به بعد انتهاء حرب تموز مع القرار 1701، وظنّه ليس في محله إطلاقاً والدليل آلية التنفيذ التي تُحصي أنفاسه، ولكن لو تم الافتراض أن بإمكانه التذاكي والتحايل، فماذا سيفعل مع الجغرافيا السورية التي أُخرِجت منها إيران، وأُقفِلت معها المعابر الشرعية وغير الشرعية لسلاحه الإيراني؟
المقصود قوله إن هناك معطيات ميدانية واضحة لا تحتمل التأويل ولا التنظير ولا التغيير حتى إشعار آخر، وأصبحت خيارات "حزب الله" معها محدودة، فإما أن يتأقلم مع الواقع الجديد وتحت سقفه، وإما أن يصطدم بهذا الواقع، وبما أن ميزان القوى ليس لمصلحته إطلاقاً، وقرر المواجهة فهذا يعني أنه قرّر الانتحار نهائياً.
إن أي قراءة يُجريها "حزب الله" يفترض أن تأخذ في الاعتبار الوقائع التالية:
أولاً، ترافقت نشأته في لبنان مع الحرب والفوضى والسيطرة السورية والتحالف الوثيق بين نظامَي الولي الفقيه والبعث. ومع إقفال طريق عملياته العسكرية ضد إسرائيل، وإقفال طريق إمداده بالسلاح الإيراني من سوريا، أصبح بحكم الساقط عسكرياً في لبنان. وباتت كل وضعيته بحاجة إلى المراجعة منذ البدايات إلى اليوم.
ثانياً، كان "حزب الله" يستفيد من الخط المفتوح من إيران إلى لبنان عن طريق سوريا، كما كان يستفيد من سيطرته على الحدود اللبنانية البرية والبحرية والجوية، ومع إحكام السيطرة الدولية على هذه الحدود، وخروج سوريا من ساحات نفوذ إيران، أصبح "الحزب" بحكم المطوّق من إسرائيل ومن سوريا، أي من البحر والجو والبر وأيضا من الداخل السياسي.
ثالثاً، لم تنتهِ المواجهة مع ضرب بنية "حماس" العسكرية، وتدمير جسم "حزب الله" العسكري، وإسقاط نظام الأسد، إنما الحرب مستمرة لمزيد من إخراج أذرع الممانعة المتبقية من الخدمة وصولاً إلى تطويق إيران وتخييرها بين تغيير دورها أو سقوط نظامها، ويبدو أن إسرائيل تعد العدّة لضم "الحوثي" إلى الحزب والحركة.
رابعاً، الموافقة الاضطرارية لـ"حزب الله" على اتفاق وقف إطلاق النار، أنهت علّة وجوده الثانية المسماة مقاومة، ففي 27 تشرين الماضي انتهى ما يسمى مقاومة إلى الأبد، كما أن سقوط نظام الأسد أنهى علّة وجوده الأولى وهي السلاح، فلا معابر لهذا السلاح إلى الأبد، وأي محاولة لاستخدام السلاح، فستتكفل الآلية الدولية بردعه وصده.
إذاً، وبعد أن وصل "حزب الله" إلى الحائط المسدود، وفي ظل مخاطر كبرى وجودية عليه، لم يعد أمام الشيخ نعيم (قاسم) سوى أن يستنجد بالحكيم (الدكتور سمير جعجع) من أجل أن يضمن له ثلاث بوالص تأمين:
البوليصة الأولى، إعادة الإعمار، وليست مصادفة أنه خلافاً لحرب تموز 2006 لم تسارع الدول في هذا الاتجاه، إنما تتريث حتى تضمن وجود سلطة تُمسك وحدها بالسلاح كي لا يُهدّم ما سيُعمّر. ومعلوم أن الثقة في رئيس "القوات" الذي لا يفرِّط بالثوابت والمبادئ تشكل المدخل والمفتاح لإعادة الإعمار.
البوليصة الثانية، الحماية من الجولاني ونتنياهو، فعلاقات جعجع الدولية وتحديداً الأميركية والعربية وتحديداً السعودية قادرة على تحصين سيادة لبنان ومنع أي انتقامات من بيئة محاصرة بين مطرقة إسرائيل التي تعتبر أن "حزب الله" أصبح وحيداً من دون عمق سوري ولا إيراني، وبات النيل منه في متناول اليد. وبين سندان الجولاني الذي لن يتسامح مع ارتكابات "الحزب" بحق السوريين.
البوليصة الثالثة، فكّ عزلة "حزب الله" الداخلية والخارجية. وحدها الدولة الفعلية قادرة على ترميم علاقة بيئة "الحزب" مع محيطها القريب اللبناني، والمتوسط العربي، والبعيد الدولي، ورأس حربة مشروع الدولة هو سمير جعجع.
أدخل "حزب الله" نفسه في العقود الأخيرة في مواجهات إقليمية كبرى وتحديداً عبر انخراطه في الحرب السورية، ومواجهته مع إسرائيل، عدا عن مواجهاته الداخلية، وكان يتكئ على المظلة الإيرانية، والخط المفتوح بين طهران وبيروت، وعلى النظام السوري، وعلى قوته الذاتية. الآن ، وبعد أن دمِّرت خطوط إمداده وسقط النظام السوري وتم ضرب قدراته وأصبح مطوقاً من نتنياهو والجولاني، عليه أن يفكِّر جدياً بمظلة أمان لوضعيته، ولا مظلة إلا الدولة والدستور، والطريق الأضمن هي معراب، فهل يلجأ الشيخ نعيم لـ"الحكيم"؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك