كتب منير الربيع في "المدن":
يدخل لبنان أخطر مراحل انقساماته السياسية. لم يعد أحد من القوى السياسية يمتلك قدرة على المبادرة أو حتى على المناورة. يبلغ الاشتباك السياسي مستوى المواجهة العلنية المباشرة، والتي ترسي أجواءً انقسامية في البلاد، التي غدا فيها الفرز عمودياً بشكل رهيب، يمكنه أن يؤسس لفلتان أمني، ولتعزيز نزعات "الطلاق"، أو رفع مستوى الدعوات للمركزيات المناطقية. إنها حرب أهلية إعلامية وسياسية حتى الآن. وكأنها تبدو مقدّمة لحرب أكثر خطورة، ما لم يتدارك اللبنانيون مستوى الخطورة الذي يقتربون منه.
الصراع على هوية البلد
في الصورة القائمة مشهدان، مشهد من الحقبة الممتدة بين العامين 2006 و2008، ومشهد آخر يعود إلى حقبة الحرب الأهلية. الخطاب الطائفي والهجوم السياسي، المعطوف على تشبث سياسي بمرشح من هنا أو هناك، أو صراع ذات طابع إقليمي ينعكس في إطار الصراع على هوية البلد وجوهر وجوده، فيه ما يشبه أحداث ومقدمات للحرب الأهلية، وسط رهانات كثر على "انفتاح" عربي على سوريا قد يعزز غلبة طرف على حساب الطرف الآخر. وهو ما يستدعي رداً مباشراً من الخصوم، بأن نجاح حزب الله في فرض مرشحه لرئاسة الجمهورية سيواجه بمنع النصاب الدستوري لانعقاد الجلسة. وفي حال لم يتمكن المعترضون من ذلك فإنه سيلجأون إلى خيارات أبعد من اللامركزية الإدارية والمالية والموسعة. وهي بالمعنى المباشر الطلاق واستحالة التعايش.
أما المشهد المتأتي من حقبة الإنقسام العمودي بين العامين 2006 و2008 فأيضاً ينطوي على السجالات السياسية العقيمة، والتي غالباً ما كانت تؤدي إلى أحداث أمنية متنقلة وصولاً إلى معركة 7 أيار. لكن الفارق بين الأمس واليوم هو بعض التشابك في التحالفات السياسية، فحينها كان الطرف الشيعي متحالفاً مع آخر مسيحي، فيما السنّة يتحالفون مع طرف مسيحي في المقابل. اليوم يبدو المشهد مغايراً، في ظل التوتر المسيحي-الشيعي، وغياب أي دور مؤثر للسنّة. وهذا سيعطي طابعاً انقسامياً على أساس طائفي بين المسلمين والمسيحيين.
خيبة مسيحية
أمام هذا الواقع، يشعر المسيحيون بأنهم في موضع التخلي عنهم من قبل المسلمين. فحزب الله مثلاً، والذي كان لديه كتلة نيابية مسيحية واسعة ووازنة، تخلّى عنها في سبيل دعم ترشيح سليمان فرنجية، على الأقل من وجهة نظر التيار الوطني الحرّ. كذلك الأمر بالنسبة إلى القوى المسيحية الأخرى المعارضة للحزب، كالقوات اللبنانية والكتائب والمسيحيين المستقلين، يستشعرون تخلياً إسلامياً سنياً عنهم، من خلال إما التشتت السنّي وإما الصورة الانطباعية المأخوذة عن موقف تيار المستقبل أو النواب الذين يدورون في فلكه، بأنهم لا يمانعون انتخاب فرنجية. حتى أن التيار الوطني الحرّ كان في الفترة الأخيرة يعبّر عن أن سعد الحريري هو الذي يمثل السنّة، ولا بد له من العودة، وأُطلقت مواقف فيها بعض من الغزل باتجاه الحريري، إلا أنها سرعان ما تبددت، بفعل استشعار العونيين أن الحريري وخلال زيارته الأخيرة لبيروت بدا متحمساً لخيار فرنجية أيضاً.
مثل هذا الشعور، سيدفع المسيحيين إلى التقوقع أكثر، وإلى نزعات الانفصال أو التقسيم أو الطلاق. وهو ما يظهر في آلية ممارسة العمل السياسي داخل المؤسسات، وكان آخرها تعطيل عمل اللجان النيابية المشتركة. ذلك سيكون له آثار واقعية على الأرض من الناحية الاجتماعية. كل ما يجري يندرج في سياق التهافت، في ظل غياب أي فكرة جذابة قابلة للنقاش، حتى أن الدخول في سياق من التوتير لن يكون له أي قابلية للاستمرار أو إطالة أمد الاقتتال، لأن ذلك لا أحد يريده ولا أحد جاهزاً له في الداخل، في ظل الإصرار الخارجي على ضرورة الحفاظ على الاستقرار.
هنا ثمة من يعتبر أن كل ما يمكن لهذه السلطة أن تقوم به سينقلب عليها، طالما أن ليس هناك حواضن لمثل هذه المشاريع، فيما ذلك هو أحد أبرز تجليات مشاهد الانهيار، التي قد تطول من دون إيجاد أي صيغ للمعالجة، ووسط عدم الاستعداد للذهاب إلى الصراع المفتوح. وبذلك يبقى النزيف قائماً ومستمراً.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك