نكهة حكومة الإصلاح والإنقاذ المعوّل على إنجازاتها بعد عامين وتسعة أشهر على الفراغ الحكومي، لا بدّ أن تكون أولويّاتها الإصلاحية "مطعّمة" بالشفافية للحدّ من الفساد وتحسين مرتبة لبنان التي تدهورت بشكل مقلق على لائحة الدول الأكثر فساداً.
إستناداً إلى مؤشّر مدركات الفساد CPI العالمي للعام 2024 الذي أعلنت عنه جمعية الشفافية الدولية-لبنان، يتناول العلاقة بين تغيّر المناخ والفساد، حصل لبنان على درجة 22 من 100، مسجِّلاً تراجعاً مقارنةً بالعام الماضي، حين حقّق 24 من 100. كذلك، احتلّ لبنان المرتبة 154 من أصل 180 دولة، بعد أن كان في المرتبة 149 من 180 في العام 2023.
للوقوف على معاني هذا المؤشّر وترتيب لبنان عملياً، لا بدّ من الإشارة أولاً إلى أن مؤشر مدركات الفساد يشمل القطاع العام فقط، وكلّما اقتربت درجة التصنيف من الدرجة 100 زادت النظرة الإيجابية، وكلّما اقترب لبنان من الصفر أصبحت النظرة سلبية أكثر. فذلك يتعلّق بإدراك القطاع الخاص ورجال الأعمال ومنظمات القطاع المدني، لمدى انتشار الفساد الداخلي في القطاع العام في لبنان.
تأتي هذه النتيجة، بعد سنوات من الفشل الإداري والفساد المُمنهَج، واندلاع أزمة اقتصادية ومالية لا تزال أصداؤها تتردّد على ساحة حجز الودائع وعدم الشروع في الإصلاحات وإصدار القوانين المواكبة لها، في ظلّ وضع أمني غير مستقر.
وتعتبر جمعية الشفافية الدولية-لبنان أن الدعوة إلى الإصلاحات في الحكومة تعزّز المساءلة والمساواة وتُعتبر أمراً ضرورياً لتعافي لبنان.
تحدّيات مكافحة الفساد
بالنسبة إلى التحدّيات التي تواجه العهد الجديد في مكافحة الفساد، يرى المدير التنفيذي لجمعية الشفافية الدولية-لبنان جوليان كورسون أن "الوقت حان لتوحيد الجهود، وتنفيذ إصلاحات فعّالة، وضمان أن تصبح الشفافية حجر الأساس لمستقبل وطننا".
وحول الأولويات المطلوبة لتحقيق تلك الشفافية وتحسين ترتيب لبنان عالمياً يقول كورسون لـ "نداء الوطن" إن "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، هيئة الشراء العام، لجنة الاعتراضات، ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي، كلّها مؤسسات تؤدّي دوراً أساسياً في مكافحة الفساد وتحتاج إلى رصد موازنات تشغيلية لتسديد الرواتب وتوظيف إضافي في هيئة الشراء العام ولجنة الاعتراضات والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، تحقيق ذلك أمر ممكن خصوصاً مع مساهمة المجتمع الدولي عن طريق المؤسسات.
ولمؤسسات القطاع العام دور أساس في الاستقامة والالتزام بالقوانين والشفافية، وفي هذا الإطار يعتبر كورسون أنه "رغم الفراغ الموجود في تلك المؤسسات نتيجة الأزمة وتضاؤل عدد المستخدمين بعد ترك وظائفهم من جرّاء انهيار قيمة الرواتب، لا بدّ من بناء قدرات الموظفين رغم ترتيب ذلك أعباء مالية على الدولة".
من أين نبدأ؟
لا يمكن أن تنكبّ الحكومة الجديدة على القيام بكلّ الإصلاحات في الوقت نفسه. أمام الحكومة 16 شهراً فقط لكنها كفيلة بتحقيق إنجازات عملية يمكن أن تؤسس لمرحلة ما بعد الانتخابات النيابية.
لذلك وكما بات معروفاً من الضروري التركيز على القطاعات والوزارات المعنية مباشرة بالإصلاحات مثل قطاع الطاقة الكهرباء والغاز والنفط وقطاع الاتصالات. إذ هناك، استناداً إلى كورسون، قطاعات أساسية معنيّة بالإصلاحات، وهناك قطاعات أساسية تدرّ أموالاً مباشرة على الخزينة مثل "الجمارك" ووزارة المالية والتهرّب الضريبي.
ولإدارات القطاعات التي هي على احتكاك مباشر مع المواطن عبر الخدمات، الأولوية أيضاً في ترميم أدائها. وفي هذا السياق تبرز أهمية الحكومة الإلكترونية أو التحوّل الرقمي، فالحكومة الإلكترونية أثبتت أنها تخفض الاحتكاك بين المواطن والمواطن الحكومي وبالتالي تحدّ من الفساد. لكن هل مكافحة الفساد تتطلّب تعديل القوانين؟
القوانين الموجودة حالياً يقول كورسون "لا بأس بها، يبقى قانون استقلالية القضاء موضوعاً أساسياً للعمل عليه على صعيد المجلس النيابي".
أما قوانين التصريح عن الذمّة المالية ومعاقبة الإثراء غير المشروع، فهناك تعديلات نعمل عليها منها:
- إتاحة التصريحات على الذمّة المالية للجمهور. وخصوصاً لبعض الأفراد العاملين في قطاعات معيّنة مثل إدارة الجمارك إذ هناك شبهات فساد كبيرة على قطاع الجمارك.
- نشر كلّ الذمم المالية التي يتمّ التصريح عنها على الموقع الإلكتروني، لتخضع لرقابة الإعلام والمجتمع الإلكتروني والأجهزة المختصة مثل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ما يساعدها على الاستقصاء في عملية مكافحة الفساد.
انطلاقاً من تلك الأولويات، سيكون تأثير مكافحة الفساد إيجابياً على ترتيب لبنان العالمي والإقليمي. من هنا إن تحسّن مؤشر لبنان بالنسبة إلى مكافحة الفساد فسيفضي إلى نوع من الارتياح محلياً لدى المواطنين ودولياً أيضاً إذ سيستعيد لبنان الثقة الدولية المفقودة بمفهوم السلطة والدولة، بما يخفّف من تكلفة الاستحصال على الخدمات من المواطنين، وزيادة التنافسية بين الشركات المحلّية التي تتقدّم في المناقصات المطروحة.
إنشاء منصّة إلكترونية
وفي هذا الإطار، إن إنشاء منصة إلكترونية للشراء العام، تتيح المشاركة فيها لكل من تتوفّر فيه الشروط بكل شفافية من دون أي تدخلات سياسية ومحسوبيات، بما يساهم في تحفيز المنافسة على الصعيد المحلي، ويشجّع الدول الأجنبية من خلال الشركات على المشاركة". وبرأي كورسون "إن وضع شروط للإصلاح لمساعدة لبنان مالياً أمر جيد جداً".
وعن دور قانون حقّ الوصول إلى المعلومات في تعزيز الشفافية اعتبر كورسون أن "هناك تطبيقاً خجولاً لقرار حق الوصول إلى المعلومات أكان لنشر المعلومات عبر مواقع إلكترونية أو الاستجابة لطلبات المعلومات التي تقدّم من المواطنين إلى الإدارات العامة". معتبراً أن "الالتزام بمنح المعلومات لطالبها يتطلّب اتّخاذ قرار سياسي بإعطاء الأولوية للشفافية في القطاع العام وخاصة تطبيق قانون حق الوصول إلى المعلومات".
الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد
تبقى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد هي العنصر الأبرز، إذ من صلاحيتها أن تبتّ بالشكاوى وتصدر قرارات ملزمة للمؤسسات بإعطاء المعلومة المطلوبة تطبيقاً لقانون حقّ الوصول إلى المعلومات. فجلّ ما يحصل أن الهيئة كما قال كورسون "تلزم المؤسسات بتوفير المعلومات المطلوبة ولكن لا تستجيب كل المؤسسات لمطلبها. وهنا تكمن أهمية تعديل قانون حق الوصول إلى المعلومات ووضع غرامات على المؤسسات والأفراد الذين لا يستجيبون للطلبات بما يرفع منسوب المساءلة والمحاسبة ويزيد فرص إمكانية تطبيق هذا القانون".
إنّ اتّخاذ لبنان تدابير من شأنها أن تحدّ من الفساد وبالتالي اقترابه من الدرجة 100، سيحسّن من وضعه في مؤشر مدركات الفساد ما ستكون له تداعيات إيجابية دولياً، إذ ستدعمه في خروجه من اللائحة الرمادية، إلى جانب طبعاً سائر الإصلاحات وإعادة هيكلة القطاع المصرفي والمالي والحدّ من التداول بالـ "كاش" والتشدّد في مكافحة تبييض الأموال.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك