خسر "حزب الله" مئات المقاتلين في الحرب التي زجّ نفسه فيها في سوريا دفاعاً عن رئيس النظام بشار الأسد منذ العام 2011. اليوم بعد سقوط النظام وفرار الأسد يدفع "الحزب" ثمن مشاركته في تلك الحرب التي حذّره كثيرون، حتى من داخل البيئة الشيعية، من الانخراط فيها. فقد خسر الحليف ويكاد يخسر نفسه وهو يواجه الحرب على جبهتي إسرائيل والنظام الجديد في سوريا. فالاشتباكات التي تتكرّر على سلسلة الجبال الشرقية في مناطق متاخمة لبعلبك والهرمل ليست مجرد حرب عشائر وعصابات ومهرّبين. وليس من قبيل الصدف أن تكون هذه السلسلة في الوقت نفسه عرضة لغارات إسرائيلية تستهدف المعابر البرية ومواقع لـ "حزب الله". ولم يكن ينقص "الحزب" إلا هجوم الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس عليه من قصر بعبدا معلنة هزيمته.
عندما بدأت الثورة السورية ضد النظام من منطقة درعا في 15 آذار 2011، لم يكن "حزب الله" وإيران والأسد يتوقّعون أن تهزّ تظاهرة درعا السلمية عرش الأسد وتهدّد الطريق بين إيران والضاحية الجنوبية. لم يبدأ تدخل "حزب الله" في سوريا عسكرياً إلا بعدما تأكد أنّ النظام غير قادر على امتصاص الموجة الاعتراضية، وعندما أيقن أن الدفاع عن هذا النظام هو دفاع عن نفسه أولاً، خصوصاً بعد بدء المواجهات العسكرية وسيطرة المعارضة على عدد من المناطق على الحدود مع تركيا والعراق والأردن ولبنان.
انتهت حرب لتبدأ حرب
كان "حزب الله" قد خرج من حرب تموز 2006 متكبّداً خسائر كبيرة أدّت إلى قبوله بالقرار 1701 الذي ينص صراحة على نزع سلاحه، تطبيقاً للقرار 1559، وعلى استعادة سيادة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها وضبط المعابر البرية بين لبنان وسوريا ومنع وصول السلاح إلى "الحزب". ولكن هذا القرار لم يطبّق. من غير الثابت ما إذا كان المطلوب وقتها بقاء سلاح "الحزب" معه وتثبيت الهدوء على الجبهة مع إسرائيل لكي يتسنى له الانخراط في حرب سورية كانت منتظرة أو متوقعة. ولكن في النتيجة هذا ما حصل. منذ آب 2006 التزم "الحزب" قرار وقف النار مع إسرائيل ليفتح النار اعتباراً من العام 2011 في سوريا قبل أن يقع في نهاية المطاف بين ناري الحرب على الجبهتين السورية والإسرائيلية.
بدأ "الحزب" تدخله في سوريا بخجل. ادّعى أولاً أنه سيدافع عن مقام السيدة زينب في دمشق. ثم قال أمينه العام السيد حسن نصرالله إنه سيدافع عن الشيعة اللبنانيين في القرى السورية المتاخمة للحدود مع لبنان والتي تشكّل امتداداً للقرى الشيعية في لبنان وللعشائر، باعتبار أن الأهالي على جانبي الحدود هم أهل وأقارب وعائلات واحدة. ثم قال إنه سيدافع عن القرى الشيعية في لبنان وحتى عن القرى والبلدات المسيحية بعد تحولات الثورة السورية وسيطرة التنظيمات الأصولية عليها وذهابها نحو مواجهات مسلحة في كل المناطق السورية. ولا يزال كلام السيد حسن نصرالله حول هذه المواجهة ثابتاً في أكثر من محطة. فقد أعلن أكثر من مرة أنه مستعدّ لإرسال آلاف المقاتلين إلى سوريا وأنّه سيذهب شخصياً للقتال هناك إذا اقتضى الأمر، وأنّه سيكون حيث يجب أن يكون وأن الله كلّفه التدخّل، وأنّه لولا ذهاب حزبه للقتال في سوريا لكان تنظيما "داعش" و"جبهة النصرة" دخلا لبنان واحتلا بعلبك والهرمل ووصلا إلى جونيه وكسروان.
حرب القصير والقلمون
هذه الاستراتيجية كرسها "الحزب" أولا في الحرب التي خاضها في منطقة القصير عام 2013 وخسر فيها أكثر من مئة مقاتل، ليكتشف بعدها أن مقاتلي التنظيمات الأصولية استخدموا طرقاً في القتال وحفر الخنادق كان "الحزب" قد درّب حركة "حماس" عليها. وشكل هذا الاكتشاف نقطة تحول سلبية في العلاقة بين "الحزب" والحركة التي انخرطت عقائدياً ودينياً في الحرب ضد النظام. جعل "الحزب" منطقة القصير مركزاً استراتيجياً له ولكنه لم يستطع أن يسيطر على منطقة القلمون التي بقيت تحت سيطرة التنظيمات الأصولية، فتمكّنت في آب 2014 من تنفيذ غزوتها ضد مواقع الجيش اللبناني الحدودية والدخول إلى بلدة عرسال. وقد ساهم "الحزب" في الترويج لإعطاء أسباب موجبة وإيجابية لحربه في سوريا، خصوصاً بعد استعادة بلدة معلولا وديرها الأثري من التنظيمات الأصولية عام 2014 بعدما كانت هذه التنظيمات خطفت راهبات الدير.
بقيت التنظيمات الأصولية في جرود القلمون حتى العام 2017. من هناك أتوا بأكثر من سيارة مفخخة إلى لبنان ونفذوا أكثر من عملية انتحارية. قبل أن يتولّى "حزب الله" مهمة تحرير الجرود، وقبل أن يدخل الجيش اللبناني هذه المعركة بقيادة العماد جوزاف عون في الوقت نفسه في جرود القاع وراس بعلبك، ويعلن النصر في 30 آب 2017. ولكن هذا النصر بقي ناقصاً بسبب اتفاق "الحزب" والتنظيمات الأصولية على انتقال مقاتليها إلى منطقة إدلب التي كانت تحت سيطرتها وبقيادة أبو محمد الجولاني، أحمد الشرع، مقابل تسليم عدد من أسرى "الحزب". هؤلاء الذين غادروا جرود القلمون في ذلك الوقت عادوا إليها بعد سقوط النظام في 8 كانون الأول 2024.
هدم ما بناه
كل ما بناه "الحزب" في سوريا على مدى 13 عاماً انهار فجأة. حاول "الحزب" أن يكون حيث يجب أن يكون في حمص وحلب والساحل والجرود ودمشق وصولاً إلى الحدود في القنيطرة والجولان. وحاول أن يؤسس لمقاومة في سوريا ضد إسرائيل. ولكن الأجواء السورية بقيت مفتوحة أمام التدخل الإسرائيلي. صحيح أن الروس أنقذوا الأسد و"حزب الله" وإيران بعد تدخلهم العسكري في أيلول 2015 وساعدوا في سيطرة النظام وإيران على مناطق كثيرة من حلب وحماة وريف دمشق والحدود مع لبنان، إلا أن الروس سمحوا لإسرائيل باستباحة الأجواء السورية واستهداف كل المواقع التابعة لإيران و"حزب الله" وعمليات نقل الأسلحة والمخازن ومعامل التصنيع العسكرية. لذلك صار يقال بعد خسارة "حزب الله" في الحرب الأخيرة مع إسرائيل إن "الحزب" دفع ثمن تدخله في سوريا بحيث فقد الكثير من قياداته الأساسية وانكشف أمنياً أمام المخابرات الإسرائيلية التي كان يمكنها أن تسرح وتمرح في كل المناطق السورية في ظل الفوضى العسكرية والأمنية. لذلك يمكن القول أن "الحزب" توهّم أنّه انتصر في سوريا وأنّه أنقذ النظام من السقوط واعتبر أن تهديد النظام مرحلة وطُوِيَت وأصبحت وراءه وأنّ الأسد باقٍ وصامد. فجأة سقط هذا الوهم. كل ما بناه "الحزب" من مواقع داخل سوريا انهار تماماً ووجد نفسه خلال أيام قليلة مضطرّاً إلى الفرار من سوريا وسحب ما أمكن من مقاتلين وأسلحة. كان يعتقد أنّ بإمكانه أن يجعل من سوريا قاعدة خلفية له لتجاوز تطبيق اتفاق وقف النار في لبنان، ولكنّه وجد نفسه أمام جبهة جديدة على الحدود مع سوريا ليحصد نتائج ما زرعه على مدى سنوات وليبحث عن أماكن لإيواء من قال إنه ذاهب للدفاع عنهم في سوريا وتثبيتهم في بلداتهم وقراهم.
التسليم للجيش والدولة
كان "حزب الله" يتخطّى كل المطالبات بإقفال المعابر البرية غير الشرعية بين لبنان وسوريا لأنّه كان يعتمدها لنقل السلاح والمسلحين. بعد انسحابه من سوريا بات اليوم بحاجة إلى ضبط هذه الحدود وإلى التأكيد على دور الجيش اللبناني. من هذه الزاوية بات تطبيق القرار 1701 واتفاق وقف النار لمصلحته. وبات موضوع تولّي الجيش ضبط كامل الحدود مسألة واجبة، و"الحزب" الذي كان يعارض إقامة الجيش المزيد من أبراج المراقبة ويعتبر أنّها تستخدم مع الكاميرات لنقل المعلومات إلى إسرائيل، بات بحاجة إلى دعم الجيش وإقامة هذه الأبراج على كامل الحدود. و"الحزب" الذي لم يكن يعترف بالحدود بين لبنان وسوريا ويستبيحها ويستبيح هيبة الدولة اللبنانية، بات اليوم بحاجة إلى تطبيق القرار 1680 الصادر عن مجلس الأمن والداخل ضمن اتفاق وقف النار، والذي ينصّ على ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا. هذا الترسيم مطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى حتى ينتشر الجيش اللبناني على كامل الحدود ويحول دون تطور الاشتباكات التي تتكرر هناك، والتي لا يمكن أن تكون مجرد مناوشات بين مهربين وعصابات. فـ "الحزب" الذي حاول ربما استعادة بعض ما تبقى له من أسلحة في مخازن لم تصادرها السلطات السورية الجديدة، لا يمكنه أن يقاتل على جبهتي الصراع مع العدو الإسرائيلي والعدو السوري الجديد، بالإضافة إلى معركته وحربه في الداخل من أجل الحفاظ على وجوده داخل الدولة ومنع إبعاده عن الحكومة والسلطة وإفقاده قوة التعطيل. الحمل ثقيل على "الحزب" وربما باتت المواجهات المفروضة عليه أكبر من طاقته على الاحتمال بحيث يبقى عليه التسليم بأن الخروج من هذه الأزمة يكون من خلال التنازل للدولة اللبنانية وللجيش وللحكم الجديد وعهد العماد جوزاف عون وحكومة الرئيس نواف سلام.
هجوم أورتاغوس
مهدّداً بين جبهتي إسرائيل وسوريا لم يكن ينقص "الحزب" الهجوم الأميركي عليه من جبهة قصر بعبدا، حيث أعلنت أمس نائبة المبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس: "نأمل انتهاء نفوذ "حزب الله" في لبنان. ويجب ضمان ألّا يشكّل أي تهديد للبنانيين. إسرائيل هزمت "حزب الله" ونحن ممتنّون لها بسبب ذلك ونؤكّد على مسألة عدم مشاركة "الحزب" في الحكومة اللبنانية الجديدة بأيّ شكل من الأشكال. الفساد في لبنان سينتهي وسينتهي نفوذ "حزب الله". الكلام واضح. نقطة على السطر. وأوضح منه أن الرئيس عون حمَّل أورتاغوس تحياته إلى الرئيس دونالد ترامب، شاكراً الدعم الذي تقدّمه الولايات المتحدة للبنان في مختلف المجالات.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك