يروي المؤرخون بأن المعز لدين الله الفاطمي حينما غزا مصر، مثُل وفد من أشرافها وأعيانها بين يديه، وسألوه عن حسبه ونسبه، فما كان منه إلا أن جذب سيفه من غمده وقال هذا نسبي، وأخرج صرة من الدنانير نثرها في الهواء قائلاً وهذا حسبي، في رسالة قوة ممزوجة بالاستعلاء.
والحال أن السواد الأعظم من اللبنانيين استبشروا خيراً بتكليف نواف سلام، لحسبه العلمي والقانوني الرفيع، ولنسبه العائلي الوطني، ولا سيما عمه الرئيس صائب سلام، السياسي المحنك، الذي برع في تجسيد التوازن الهوياتي الدقيق بين سنيته ووطنيته وعروبته، ودخل في مواجهة مع النفوذ الناصري حيناً، والمكتب الثاني في عز سطوته أحياناً، وكان حريصاً على مقام رئاسة الحكومة ودورها، ولم يتردد في تطليقها، كما كان يقول، لرفضه الخضوع لإملاءات القوى المحلية أو الخارجية، دون أن يجد غضاضة في الاعتراف بخطأ بعض مواقفه.
بيد أن الصورة السوريالية التي رسمها اللبنانيون في أذهانهم عن نواف سلام، المعززة بزخم عربي ودولي صاحب تكليفه، راحت تتحول إلى شكل سرابي مع توالي حلقات المشاورات والتسريبات. فبينما كانوا يتوسمون فيه إقصاء الذهنية الميليشيوية من الحكومة مع تورياتها اللغوية، صدموا بمبالغته في استرضاء "الثنائي الشيعي" على حساب الجميع. وبقي من الحسب العلمي صور زائريه تحت ظلال مكتبته العامرة.
يفسر مرجع سياسي نهج الرئيس المكلف بأنه نابع من يساريته الممزوجة بإرث "الناصرية"، المهيمن على منهجية تفكير جلّ ساسة السنة الذين تشكل وعيهم السياسي آنذاك، ورفضه أن يكون رأس حربة في مواجهة ما يعرف بـ "قوى المقاومة"، بما يدفعه نحو المبالغة في احتوائها في لحظة مفصلية. فضلاً عن مقاربته لقوة إسناد حكومته المنتظرة، القائمة على 4 عناصر: المجتمع الدولي، الدعم العربي، الثنائي لعدم عرقلة مشاريعه في البرلمان وقوى التغيير.
لذلك، فهو لا يرغب في مشاركة باقي القوى السياسية، وخصوصاً المسيحية، إلا بطريقة منزوعة الدسم السياسي، و"يتوكّأ" على قوة وهج رئاسة الجمهورية، فيما يظهر تعالياً على السنة، اشتكى منه كل ساستهم الذين التقوه، ينطلق من تأثير مفهوم "الحاكمية" في المخيال الإسلامي، ويمتزج بخفة ممثلي السنة بالمقارنة مع رصيده السياسي والمعرفي، ليلتقي بالرغبة الدولية المدعومة عربياً بتقديم وجوه سنية ذات عقلية غربية تظهر بجلاء لدى النواب التغييريين، وخصوصاً إبراهيم منيمنة وحليمة قعقور.
ويكشف المرجع السياسي عن صفقة حبيسة الغرف المغلقة بين الرئيس المكلف و"الثنائي الشيعي"، حيث يؤول تسمية وزير شيعي إلى الرئيس المكلف بالشراكة مع رئيس الجمهورية، مقابل تسمية "الثنائي" لوزير سني، بما يعزز من حضور سلام أمام المجتمعين الدولي والعربي، ليبدو وكأنه نزع فتيل التعطيل "الميثاقي" وخرق الحصن الوزاري الشيعي للمرة الأولى منذ عهد الوصاية.
بيد أن الطامة الكبرى هي في الحقيبة السنية والشخصية المسماة لها، حيث تتقاطع المعلومات حول تزكية الرئيس السنيورة للعميد أحمد الحجار لتولي وزارة الداخلية، وموافقة "الثنائي"، فيكون إذّاك قبض على وزارتين سياديتين، مقابل إثنتين لرئيس الجمهورية. مكمن الخطورة هو أن الداخلية تعد "أم الوزارات" لما لها من نفوذ وما تضمّ من مديريات، وأنها ستشرف على إدارة الانتخابات البلدية والنيابية، بما يمنح الثنائي هامشاً واسعاً لإعادة إنتاج نفوذه السياسي.
والأخطر منها دخول "فرع المعلومات" في المهداف، حيث يعتزم الثنائي القيام بأضخم عملية مناقلات لتقويض الجهاز، وزرع بذور الولاء الفئوي داخله، كما هو الحال في "الأمن العام" و"أمن الدولة"، والانتقام من دور "المعلومات"، ولا سيما متابعته وتوثيقه أدوار "أمل" و"الحزب" في تهريب قيادات نظام الأسد إلى لبنان كـ "مقر" أو "ممر".
يبين المرجع السياسي بأن الحجار سبق أن اقترحه الثنائي للداخلية، وكذلك فعل الرئيس ميشال عون مع الرؤساء سعد الحريري ونجيب ميقاتي وحسان دياب، إلا أنه كان يواجه دائماً فيتو حريري صلب، أدى لاستبعاده عن رئاسة الحرس الحكومي عام 2009، وحينما اقترح اسمه لقيادة شرطة بيروت أو مدير قوى الأمن، بسبب ما يحكى عن قربه من الممانعة وخصوصاً زاهر الخطيب، الذي كان يطالب في الطائف بـ "المثالثة" بمنطوق برّي.
حاول مثل كثر التقرب من "المستقبل"، وبعدما خف وهجه، انتقل ولاؤه نحو بري، مثل مسؤول التثقيف السياسي أحمد رباح الذي رفع لواء "أمل"، فعُيّن عميداً لكلية الآداب وبعدها مستشاراً لرئيس الجامعة اللبنانية. ويتناقل العديد ممن عاصروا رئاسة الحجار لـ "الحرس الحكومي" إبان حكومة السنيورة، حادثة احتفاظه بمكافأة منحها الحريري، على جري عادته، لعناصر وضباط السرية، إلا أن مسؤول حرس الأخير اكتشف الأمر، ما اضطره لتوزيع نزر منها، في دلالة تعكس حجم النفس الإصلاحي الذي يتميز به، ناهيكم عن نفوره المعروف من سنة الأطراف.
ويختم المرجع السياسي بأن صدور مراسيم الحكومة على الشكل المتداول كفيل بأن يفتح على رئيسها أبواباً نحو جحيم سني هائل، إذ لا يعقل أن يتوزع تمثيلهم الوزاري بين الثنائي و"كلنا إرادة".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك