كتب نجم الهاشم في "نداء الوطن":
يعود دونالد ترامب إلى البيت الأبيض كالذئب. الرئيس الـ47 للولايات المتحدة الأميركية منذ ولايته الأولى عام 2017 تصرّف كذئب، وواصل التركيز على الحديث عن عظمة أميركا وعن عمله لاستعادة هذه العظمة، وكأنّ التاريخ الجديد للإمبراطورية الأميركية يبدأ معه أو على أقل تقدير هو الذي يجدّده. خلال أربعة أعوام في الحكم ثم أربعة أخرى خارجه، لم يتخلّ ترامب عن المغامرة وإدهاش العالم. أربعة أعوام ابتعد فيها عن البيت الأبيض ولكنّه بقي يتصرّف وكأنّه الرئيس المقيم فيه الذي سُلِبت منه الرئاسة، وبقيَ يتحدّث عن حلمه باستعادة الحلم الأميركي. اليوم يعود إلى موقعه ليتابع المهمة التي يعتبر أنّ الله نذره لها، وأنقذه من محاولة الاغتيال التي تعرّض لها حتى يتابع المهمة، ويعيد رسم خريطة الإمبراطورية الأميركية كما في الأرض كذلك في السماوات، وصولاً إلى المريخ، وما بعد المريخ، بعدما صار الوصول إلى القمر حدثاً في الماضي.
قد يكون من حظ ترامب هذا المدى الزمني الفاصل بين ولايتيه الرئاسيتين. بدل أن يكون اليوم يودّع المشهد العالمي، ها هو يبدأ أربعة أعوام جديدة في الحكم وفي بناء الحلم. وهو في اندفاعته التي لم تهدأ طوال الأعوام الأربعة الماضية، بقي يتصرّف وكأنه الرئيس المنتظر. ولا شك في أنّه يعمل ليترك بصماته على السياسة الأميركية بعد انتهاء ولايته الحالية، وكأنه يريد أن يكون ملهِماً للقادة الجدد للإمبراطورية التي يريد أن يعيد مجدها وعظمتها، في ما يعتبر أنّها مهمة مقدسة.
أحلام مقدسة
أحلام ترامب ترجمها في خطاب القسم خلال توليته رئيساً في 20 كانون الثاني 2025. قال: "العصر الذهبي لأميركا يبدأ الآن وسيحترمنا العالم من جديد ولن نسمح لأحد بأن يستغلنا بعد الآن، وطوال فترة رئاستي سأضع أميركا أولاً. سنبني أمة حرّة مزدهرة. أميركا ستكون عظيمة أكثر من أي وقت مضى... لن نسمح لأحد باستغلال أميركا، حكوماتنا أخفقت في حماية المواطن الأميركي، ونواجه أزمة ثقة في حكوماتنا منذ سنوات عديدة، ولن نسمح بالإهمال والفساد في الجهاز الحكومي... انحدار أميركا انتهى، وانتخابي بمثابة تفويض للتغيير كما وأنَّ الله نجاني وحماني من محاولة الاغتيال لإنقاذ أميركا، وسنواجه الأزمات بقوة، والانتخابات الأخيرة كانت أعظم انتخابات في تاريخ أميركا... أنقذني الله لأجعل أميركا عظيمة... سأبدأ ثورة التغيير. كل الأمور ستتبدل ابتداء من اليوم وسيحصل التغيير بسرعة وسنعيد للشعب إيمانه وحريته، ومنذ الآن تراجع أميركا انتهى... أريد أن أصنع السلام وسيعود الرهائن من الشرق الأوسط إلى عائلاتهم".
قول ترامب إن العصر الذهبي لأميركا يبدأ الآن ليس دقيقاً. قبله كانت لأميركا جولات من العظمة غيّرت خلالها مسار التاريخ وصورة العالم وتوازناته. وثورة التغيير التي تحدّث عنها ترامب سابقة له ولزمانه، وإن كان يعتبر أنّ مهمته اليوم هي استعادة هذه العظمة والبدء بثورة جديدة لصناعة التغيير وإنقاذ أميركا.
أميركا تمارس رجولتها
جاء ترامب ليكمل ما كان بدأه غيره بخروج أميركا إلى العالم لتمارس رجولتها. ما الذي يدفع هذا الجندي الأميركي المدجّج بالأسلحة ليترك أباه وأمه وزوجته وأولاده ووطنه ويرحل على متن بارجة حربية ليقاتل في ألمانيا وفرنسا، وفي كوريا أو فيتنام، في أفغانستان أو العراق، أو لبنان أو الصومال، أو أي مكان آخر تطلب منه حكومته أن يقاتل فيه؟ هل هي مهمة وطنية أم تكليف شرعي إلهي من الجانب الآخر للدعوة الربانية؟ أم مجرد سياسة عليا يدفع الجنود دائماً ثمناً لها؟
صبغت الولايات المتحدة القرن العشرين بكلّ شيء، وما كاد ينتهي حتى كان القرن الجديد يمدد عهد الإمبراطورية الجديدة ليدوم سنوات طويلة قد تكون قروناً.
العالم الجديد الذي انبثق من القارّة التي كانت بعيدة ومجهولة، يخرج من القمقم ليعود إلى العالم الذي أتى منه أفراداً أو جماعاتٍ، بعد سنوات طويلة من العزلة والانكفاء والحروب الداخلية بين الشمال والجنوب وضد البريطانيين والإسبان والعبودية.
هل حركت أحداث 11 أيلول 2001 الأحلام الراكدة في المجتمع الأميركي وجعلت واشنطن تدمر كل القيود الدولية لتشن حروبها وتغزو العالم وتفكر بالذهاب إلى المريخ ورفع العلم الأميركي عليه، لأن القمر بات حلماً سابقاً وانتهى وتجاوزته الأحلام الأميركية؟
وهل اعتبرت واشنطن أنها سلّفت العالم الكثير في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبالتالي على هذا العالم أن يقف معها حتى لا يصل الخطر إلى داخل دارها؟ وهل تُعيد واشنطن صياغة العالم على طريقتها كما صاغت عصبة الأمم ثم هيئة الأمم؟ وبعدما صاغت أوروبا الشرقية والشرق الأدنى، هل تُعيد اليوم صياغة الشرق الأوسط؟ بعد غزو أفغانستان والعراق هل جاء دور إيران؟ لعل القاسم المشترك بين ترامب وسلفه الرئيس جو بايدن أنّهما اتفقا على محاربة الخطر الإيراني وعملا على تقليص نفوذ طهران في الشرق الأوسط وقطع أذرعها في لبنان وغزة وسوريا والعراق.
نظرية التوسع الإمبراطوري
بدأت أولى محاولات التوسع الأميركي مع الرئيس وليام ماكينلي في نهاية القرن التاسع عشر، كما يذكر الكاتب الأميركي ستانلي كارنوف في كتابه "الإمبراطورية الأميركية في الفيليبين". فهو يذكر أن أميركا نشأت دولة متحركة لا تستطيع إلا أن تتقدم وتتوسع وتنتشر. ولكن بداية الانتشار كانت أولاً في المناطق البعيدة عن الإمبراطوريات القديمة، التي سعت الإمبراطورية الجديدة لقضمها ووراثتها جزيرة بعد جزيرة وقارة بعد قارة.
يروي كارنوف أن ماكينلي استقبل في أيلول 1898 وفداً من قساوسة جمعية الكنائس التبشيرية وفاجأهم عندما بدأ يخبرهم ما اعتبره وصية سماوية إلهية في ما يتعلّق بالسيطرة على جزر الفيليبين وفحواه: "أن هذه الجزر جاءتنا من السماء. فنحن لم نطلبها ولكنها وصلت إلى أيدينا من خالقنا، ولا يصحّ أن نردّها، وحتى إذا حاولنا ردّها فلن نعرف لمن ولا كيف. إنّه من زيادة الجبن وقلّة الشرف والتخلّي عن الواجب أن نعيدها إلى إسبانيا، ومن سوء التصرّف والتبديد أن نعهد بها إلى قوى أوروبية متنافسة على المستعمرات كألمانيا وفرنسا، ومن غير الملائم أن نترك هذه الجزر لحماقة وجهل سكان محلّيين لا يصلحون لتولّي المسؤولية. إن الخيارات المفتوحة أمامنا تركزت في حل واحد هو في الواقع لمصلحة الفيليبين قبل أي طرف آخر، وهذا الحل هو ضم الجزر إلى أملاكنا، بحيث نستطيع تعليم سكانها ورفع مستواهم وترقية عقائدهم المسيحية ليكونوا حيث تريد لهم مشيئة الرب، إخوة لنا فدتهم تضحية المسيح كما فدتنا".
بعد مناقشات طويلة في الكونغرس تم تبنّي نظرية التوسع الإمبراطوري، وقد كتب يومها الشاعر البريطاني روديارد كيبلنغ مشجعاً: "إفهموا أن أميركا لم يعد في مقدورها أن تهرب من رجولتها". وفي مداخلة لعضو مجلس ولاية فرجينيا السيناتور ألبرت بيفردج قال: "علينا أن نقول لأعداء التوسع الأميركي إن الحرية تليق فقط بالشعوب التي تستطيع حكم نفسها، أما التي لا تستطيع فإن واجبنا المقدس أمام الله يدعونا لقيادتها إلى النموذج الأميركي في الحياة، لأنّه نموذج الحق مع الشرف. نحن لا نستطيع أن نتهرّب من مسؤولية وضعتها علينا العناية الإلهية لإنقاذ الحرية والحضارة، ولذلك فإن العلم الأميركي يجب أن يكون رمزاً لكل الجيش البشري".
أميركا ليست كافرة
بعد أكثر من مئة عام، كان الله حاضراً أيضاً في الخطاب الأميركي. وبدا كأنّ المهمة الإلهية التي اختارها الأميركيون لأنفسهم لم تتغيّر، وأن أميركا لم تهرب من رجولتها بعد ولم تفقدها، بل تزيدها كل يوم قوة تبحث معها عن مناطق جديدة تبسط سلطتها عليها، إن لم يكن على الأرض ففي السماء في اتجاه طريق الله، والخطاب الأميركي اليوم، مع ترامب، فيه نكهة إلهية كما كان في الماضي، وكأنّ المهمة لم تتغيّر بتبدّل الأجيال، أو كأنّ الخطابات الإلهية الآتية من مواقع أخرى، كإيران والأصوليات الداعشية، لا تُقاوَم إلّا بخطابات إلهية موازية لها. فبعدما اعتقد كثيرون من قادة التنظيمات الأصولية ومنظريها الدينيين والمدنيين أن الإمبراطورية الأميركية فقدت أي علاقة لها بالدين وأن مجتمعها صار كافراً، وأن أيامها صارت على آخرها وانهيارها قريب أخلاقياً واقتصادياً وعسكرياً، ظهر لهم العكس تماماً. حكماً هناك إلحاد وتفلّت من القيود الأخلاقية تحت سقف الحرية المطلقة. ولكن هناك التزام فكري وعقائدي. هناك تراكم في العلاقات السياسية والاجتماعية، وكمّ من الالتزامات الأخلاقية، بحيث لم تتبدّل كثيراً صورة الجندي الأميركي الواقف على رصيف الميناء يقبّل أفراد عائلته مودعاً قبل ذهابه في "مهمة إلهية" جديدة تزرع العلم الأميركي في مكان جديد، ولكن هذه المرة بعكس الفيليبين يسقط شعار الضم إلى الأملاك الأميركية ويبقى شعار التحرير وزرع القيم، ولكن ربما كان في "الزمنين" هناك تجاهل لإرادة أهل الأرض وعقائدهم وحريتهم وطريقة عيشهم على طريقتهم، لأن الله لم يقل إن الحياة حلوة فقط على الطريقة الأميركية.
ولكن في الواقع، لم تذهب أميركا دائماً إلى حيث أرادت. فقد أتتها النداءات ولبّتها أكثر من مرة، وكان في إمكانها ألا تفعل. وبقوتها البكر غيّرت مجرى التاريخ وكتبته على طريقتها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك