كتبت لوسي بارسخيان في "نداء الوطن":
تتجلّى «شطارة» اللبناني» عند المصاعب تحديداً. فتجاربه خلالها غنية بمبادرات، معظمها مربح على المستوى الشخصي، حتى لو كانت الخسائر العامة كبيرة جداً. وهذا تحديداً ما يحصل عند نقطة المصنع الحدودية. فبعد نحو أربعين يوماً على أربع غارات متتالية شنتها إسرائيل على المنطقة الحدودية الفاصلة بين معبرَي المصنع عند بوابة لبنان الشرقية، وجديدة يابوس المؤدي إلى سوريا، تطورت مشهدية الحفرتين اللتين خلفتهما الغارات. لم تعد الحفرتان تختصران بمعاناة الناس عند اجتيازهما، وإنما بما ولد حولهما من خدمات، لا تربك فقط السلطات اللبنانية في سعيها لتجنيب المحلة غارات إضافية، وإنما هي محبطة حتى لإسرائيل وأهدافها بشلّ المعابر البرية على مختلف المستويات. فتجار الحدود أكثر صلابة أمام الغارات المتكررة على هذه المنطقة. وعنادهم كبير في خوض غمار كل الحفر، مهما كبر حجمها أو ازدادت مشقاتها.
في 4 تشرين الأوّل الماضي، شنّ الطيران الإسرائيلي غارة أولى على معبر المصنع، ليلحقها بأخرى في 22 تشرين الأول. ومنذ ذلك الحين صار يمكن الحديث عن حقبتين مختلفتين من حركة العبور في هذه المحلة.
ما قبل 4 تشرين الأول غير ما بعده. فحينها استمر تقاطر المواطنين من نازحين لبنانيين الى الأراضي السورية، وعائدين سوريين الى بلادهم بسيارات خاصة أو مستأجرة، باصات وفي بعض الأحيان شاحنات، هرباً من الحرب التي كانت قد تمددت إلى البقاع. انحصرت الحركة في اتجاه واحد، أي من لبنان إلى سوريا، أقله على الصعيد المدني، بحيث قدرت أعداد مغادري لبنان وفقاً لمصادر أمنية حدودية بنحو 500 ألف نازح عبَرَ معظمهم بوابة المصنع الحدودية.
غابت أرتال السيارات التي اجتازت الكيلومترات الفاصلة بين البلدين بعد الغارة الأولى. وأصبحت حدود الحفرة التي تسببت بها على بعد نحو 700 متر من عنبر الجمارك، المدى الأبعد لقدرة السيارات على التقدم نحو الحدود السورية. ومع ذلك، لم تتوقف الحركة الراجلة في هذه المنطقة. استعاد البعض حينها مشهدية حرب تموز التي خلفت في المكان حفرة مشابهة، أعاقت حركة مرور البضائع والترانزيت البرية، ولكنها لم تحل دون مغادرة الناس الى سوريا. لكن الأفضلية كانت لوصول السيارات من الجانب السوري للحدود، التي بقيت وحدها قادرة على اجتياز المسافة الفاصلة عن جديدة يابوس، الى جانب عدد قليل من السيارات اللبنانية التي علقت ما بعد الحفرة. فنشطت جميعها في نقل الركاب إلى محطة جديدة يابوس مباشرة.
نشاط موازٍ
لم يكن واضحاً في هذه الفترة المكسب الحقيقي لأزمة مشغلي السيارات العالقة ما بعد عنبر الجمارك اللبنانية. وقد تقدمت خدمة «تاكسي الجورة» على نشاطها الموازي، الى أن بدأت أعداد النازحين عبر هذا المعبر تتراجع.
من الحفرة الأولى خلّف العدوان حفرة ثانية. وبين الحفرتين علقت بضع سيارات كانت تعمل على خط «الجورة- جديدة يابوس». ولم يكن ذلك لسوء حظها.
صار المرور بمشغلي السيارات ووسائل النقل العالقة بين الحفرتين حتمياً، واحتكر هؤلاء الحركة في الموقع، وكان طبيعياً أن يفرضوا تسعيرتهم، خصوصاً بالنسبة لتنقل الأفراد. وقد تراوحت هذه التسعيرة بين 5 و15 دولاراً لمسافة لا تزيد عن كيلومترين.
إلا أن ما ذكر لم يكن عامل صمود هؤلاء في المحلة على الرغم من المخاطر التي تكررت مع غارتين متتاليتين لاحقاً. ففي موازاة نقل الأشخاص، انكشف دور بقي مستوراً لحركة المصنع منذ ما قبل العدوان الإسرائيلي على لبنان، خصوصاً على صعيد تجارة المحروقات الناشطة على خط المصنع – جديدة يابوس. علماً أنه نشاط تجاري مزدهر باتجاه واحد، أي من لبنان إلى سوريا، ويعكس الحاجة الكبيرة للوقود في سوريا، خصوصاً في ظل عقوبات قانون قيصر الأميركية المفروضة على سوريا. فشكلت هذه التجارة مصدر دخل لبعض الأشخاص، رغم المخاطر والتحديات التي يواجهونها.
تنوع وسائل النقل
إنضم مالكو الدراجات النارية و«التوك توك» إلى مشغلي السيارات، مغتنمين فرصتهم للتنقل بسهولة على ضفاف الحفرتين، فتشاركوا جميعاً رزقة المكان، ووجدوا لأنفسهم وظائف متنوعة.
في المشهد العام طريق المصنع مقفل وعبوره يزداد مشقة. ولكن في الخلفية، ثمة حركة لولبية ولّدتها الغارات المتتالية على المعبر الحدودي، ونشأ حولها نشاط بارز لحمّالين، سيارات ووسائل نقل مختلفة، وبسطة لتأمين السكاكر والشاي والقهوة.
ولكن إذا كنتم تعتقدون بأن كل هؤلاء وجدوا على المصنع لخدمة النازحين إلى سوريا أو القادمين منها فأنتم مخطئون.
تراجعت حركة المصنع كثيراً بالنسبة لعبور النازحين ولكنها لم تتوقف. وتميّزت من بينها خدمة «خمس نجوم» جاءت «لتملّي عين الأكابر» وخصوصاً المواطنين السوريين المتجهين إلى لبنان للسفر عبر مطار رفيق الحريري الدولي إلى الخارج. فخُصص هؤلاء بسيارة رباعية الدفع داكنة الزجاج، لا أحد يعرف كيف علقت في المكان، لكنها أمّنت البريستيج المطلوب لرحلة مريحة بين حفرتين، وتتضمن حمل الأمتعة عن الزبون، وضمان خدمة مشابهة إلى ما بعد حدود الحفرتين، حتى ولو لم يعف ذلك الراكب «الأكابر» من النزول على الأرض ليتلاحم مع الطبقات الفقيرة في مغامرة اجتياز خندقَي العدوان.
في المقابل تنوعت وسائل نقل الطبقات الشعبية بين سيارات غير حديثة، «توك توك» وشاحنة، من دون أن تتراجع تسعيرتها المحددة سابقاً، حتى لو اختزلت مساحة انتقالها إلى كيلومترين. أما من رفض الخضوع لهذه الإحتكارية، فلم يكن أمامه سوى اجتياز المسافة بين الحفرتين سيراً على الأقدام. فعلها الكثيرون، ولكنهم وصلوا الى وجهتهم على آخر نفس. وسقط بعضهم أرضاً بعد أول مغامرة خاضوها على ضفاف واحدة من الحفرتين.
«ديليفيري» المحروقات
على الرغم من مناشدة السلطات اللبنانية بإعادة ردم حفرتي الغارة على المصنع، لم تلق حتى الآن آذاناً صاغية. ويتردد أن إبقاء الطريق مقفلاً جاء من نصيحة دبلوماسية، بعدما أظهرته إسرائيل من عناد على إبقاء هذا المعبر وسائر المعابر البرية مقفلة.
إلا أن عناد إسرائيل لا يعيق «ديليفيري المحروقات». والمشهدية التي تولدها هذه التجارة المزدهرة فوق الحفرتين مثيرة جداً للإهتمام. وهي تتخطى عملية نقل صفائحها للجانب السوري من الحدود، إلى تشكيل حلقة خدماتية مترابطة، تبدأ من محطات الوقود داخل الأراضي اللبنانية، مروراً بعنبر الجمارك والمراكز الأمنية الموجودة على الحدود، وصولاً الى ما بعد الخندق الثاني على الطريق الدولية المؤدية إلى سوريا.
«المرسيدس» محبذة هنا، ولكن ليس لكونها سيارة ألمانية متينة، وإنما بسبب مخزن محروقاتها الكبير. في حركة لولبية يتحرك الحمّالون، وجلهم من الأطفال، على إيقاع وصول السيارات الممتلئة وقوداً. فما إن يبدأ إفراغ البنزين بالغالونات، حتى ينشط هؤلاء. رشاقتهم باجتياز ضفاف الخندق، تحددها الخبرة التي اكتسبوها، حتى لو حملوا أحياناً ما يفوق أوزانهم. وعلى إيقاع هذه الحركة تسير العملية، إلى أن يفرغ خزان البنزين ليحمّل في وسائل النقل المرابضة على الضفة الثانية من الحفرة الأولى.
هذا في وقت تبدو مهارات القيادة لدى سائقي الدراجات الهوائية أساسية بتأمين انتقال الغالونات دفعة واحدة إلى الحفرة الثانية. ويزداد المشهد إثارة مع إاجتياز هؤلاء ضفة الحفرة الثانية بحمولة تتعدى وزنَي الدراجة وراكبها معاً، على الرغم من التحديات الإضافية التي فرضت عليهم بعد ثلاث غارات متتالية.
الطلب يحدد إيقاع العمل
إرتباط حجم نشاط هذه الخدمات بحجم الطلب من الجانب السوري للمحروقات، أعيق في بعض الأحيان بمحاولات ضبط التجارة غير الشرعية بالمحروقات من قبل السلطات الأمنية اللبنانية، ولا سيما الجيش اللبناني. فيكفي أن تحضر دورية عسكرية إلى المكان حتى تتجمد الحركة كلياً، لينقلب المشهد رأساً على عقب متى غابت هذه الدورية.
الأمن السوري متواطئ؟
لا يقر تجار الحدود في المقابل بالفوائد التي حققتها لهم مصائب العدوان على هذه المنطقة الحدودية. يقولون إنهم يتقاضون مبلغ 4 إلى 5 دولارات على كل صفيحة، ويكون اليوم «محرزاً» كلما زاد الطلب. لكن هذه الأرباح تقترن أيضاً بمدى توق التجار السوريين للحصول على المادة من جهتهم، حيث يتم الحديث عن بيع الكميات الواصلة من لبنان في سوق سوداء، يبلغ سعر الصفيحة منها أحيانا مئة دولار وفقاً لما ينقله سائقون سوريون مرابضون قرب الحفرة الثانية.
يغض بعض الأمن السوري في المقابل نظره عن كميات المحروقات الواصلة من لبنان، وهي وفقاً لشهود تباع أحيانا بالغالون على ضفاف الطرقات، ويتقاسم أرباحها الأمنيون من خلال ضرائب غير رسمية، أو من خلال حصولهم على هدايا برائحة البنزين، فيبدو حرص هؤلاء كبيراً على إبقاء منافذها مفتوحة. وهذا ربما ما يفسر التقائنا عند التردد على منطقة المصنع، بعناصر من الجيش السوري، حضروا لتفقد حجم العوائق التي تسببت بها الغارة الثانية.
دموع ووداع
لا تصرف التجارة غير القانونية النظر عن الهموم الإنسانية في هذه المحلة. فتترافق مشهديتها مع دموع والد يودع ابناً، أو أم ترافق ابنتها العروس لتحتفل بزفافها في سوريا، أو حتى عائلات تهيم على وجهها لتجد لها مأوى آمناً في سوريا. وعبور الأشخاص هو ما يضفي الإنسانية على المشهدية التي تغرق بالأطماع. فهنا طفل يصطحب دراجته الهوائية أو عصفور أو هرة. وهناك أم تترك أمتعتها لتضمن سلامة عبور أولادها أولاً. وهناك مغادرون تجنبوا النظر إلى ما خلّفوه وراءهم من حفر، حتى لو لم يكونوا على ثقة بأن سبيلهم سيكون معبداً بالراحة.
خذوا أسرارهم من صغارهم!
للأطفال قصصهم مع الحفرتين اللتين ولدتهما الغارات الإسرائيلية على حدود المصنع.
فعلى الضفة الثانية للحفرة الأولى التي خلفها العدوان الإسرائيلي، استحدثت عائلة «محمد» الذي يبيع القهوة في مركز الأمن العام، بسطة، تقدم خدمة القهوة والشاي والعصائر والسكاكر وحتى المناقيش أحياناً. تطورت هذه الخدمة وفقاً لطلب مشغلي وسائل النقل وأصحابها، أما أفضل زبائنها فهم تجار المحروقات والغاز الناشطون في المكان.
الفكرة هي للطفل ماهر ابن العشرة أعوام، التي تقول والدته عذراء بأن رغبته بشراء ATV جعلته يعرض على والده العمل معه في المصنع، ولم يكن أحد يتوقع أن تكون البسطة قد سدت حاجة فعلاً. وقد تحولت اليوم خدمة ممتازة لكل المرابضين عند الحفرة الأولى أو المغادرين عبرها، وجرى تحصينها مؤخراً بشوادر حتى تقيها برد الشتاء.
يوسف، 13 عاماً، هو شقيق ماهر، ولكنه يعمل في العتالة. وتتضمن مهمته نقل الحقائب كما غالونات البنزين وقوارير الغاز. يشرح أنه «عندما وقعت الغارة الثالثة على منطقة المصنع ليلاً، كان متواجداً مع عدد قليل من الأشخاص» يضيف «خفت كثيراً، حتى أن الرائحة قتلتنا، وكانت هناك سيدة أغمي عليها وعملنا على نقلها» ومع ذلك عاد في اليوم التالي ليتابع عمله.
من جهته، يعمل خالد (سوري الجنسية) 13 سنة، بالعتالة أيضاً. سألناه عن الجروح الحديثة على وجهه فذكر أنه وقع في حفرة بينما كان ينقل غالونات البنزين.
يقطن خالد حالياً بلدة الصويري المجاورة لمحلة المصنع، مع والدته وخمسة أشقاء.أجرته 20 دولاراً في اليوم، ومهمته تتضمن تقاضي سعر البضاعة المسلّمة إلى الجانب السوري من الحفرة الثانية. وهو يقول إنه «يتمرمط» أي يتعذب كثيراً في ساعات النهار. وقد شكا عندما التقيناه من أن «الشغل خفيف اليوم» لأن الجيش لم يغادر المكان منذ الصباح.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك