على عادتِه يذعن رئيس "الحزب التقدّمي الاشتراكي" السابق وليد جنبلاط للخوف. تارة يخاف من وطوراً على، لكن القاسم المشترك بين تقلّباته الكثيرة هو الخوف. ولكي ندرس تقلّبات جنبلاط السياسية بطريقة موضوعية، علينا أن نفهَم سبب الخوف الذي نشأ عليه الزّعيم الدّرزي يومَ قَتَل نظام الرّئيس السوري الراحل حافظ الأسد والده المعلّم كمال جنبلاط، ثم ترعرع على تخوّف من أن يلحَق بوالده على أيدٍ سورية أو إسرائيلية أو حتى لبنانية.
هذا الخوف، استُتبِعَ بخوف آخر على الزعامة الجنبلاطية من جهة، والدّرزية من جهة ثانية، فخطا خطوته الأولى بالتّسليم لمشيئة قاتل والده واتّباع شعار "الإيد الما فيك ليا بوسا ودعي عليا بالكَسر"، فصار أحد أقرب السياسيين اللبنانيين إلى نظام حافظ الأسد واستفاد من سطوة النظام على لبنان ماديّاً ومعنوياً وسياسياً، وكان حليف رئيس "حركة أمل" والرئيس الأوحد لمجلس النواب منذ الطائف نبيه برّي، مُتقاسِمين مغانم تبجيل سوريا في لبنان.
ولأن الخوف بات يتملّك "بيك المختارة"، فإن الزعيم الدّرزي استطاع إقناع دروز لبنان وسوريا بأنهم أقليّة مُهدّدة وبأنه حاميهم ويعرف مصلحتهم وبإمكانه المحافظة على مصالحهم وعلى وجودهم، ورأى في تحالفه مع النظام السوري، مصلحة عُليا لدروز المنطقة وهذا حقّاً ما حمى طائفة الموحّدين لسنوات طويلة.
مع نشوب خلاف كبير بين رئيس الحكومة اللبنانية الراحل الشهيد رفيق الحريري والنظام السوري، استشعر جنبلاط خطَر النظام السوريّ بحق الدروز، واعتبر أنّ هناك قراراً دولياً بالإطاحة بنظام الأسد، فخاف على الدروز ووقف إلى جانب الحريري، وكان أول من دفع ثمن موقفه بمحاولة تفجير الوزير والنائب مروان حمادة في رسالة سورية واضحة إلى زعيم المختارة.
لكنّ جنبلاط أصرّ على موقفه وبقيَ رأس حربة ضد النظام السوري بعد اغتيال الحريري، وهاجم الرئيس السوري الهارب بشار الأسد من ساحة الشهداء إلى جانب حليفه الرئيس اللبناني الأسبق إميل لحود قائلاً: "يا بيروت بدنا التار من لحّود ومن بشّار". فوقفت أكثرية اللبنانيين إلى جانبه.
بعدها، هندس جنبلاط إلى جانب رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، قرارات حكومة السنيورة في 5 أيار الـ 2007 والتي قرّرت حلّ وتفكيك شبكة اتصالات "حزب اللّه"، فردّ "الحزب" بأحداث 7 أيار الشهيرة وبمواجهة كبيرة مع الدروز، أدّت إلى تهديد جنبلاط شخصياً وتدخل الزعيم الدّرزي الوزير السابق طلال أرسلان وحليفه نبيه بري لمنع "الحزب" من تصفيته.
بعدها عاد خوف جنبلاط من النظام السوري ومن "حزب اللّه"، فطلب موعداً من الأسد وعاد إلى الحضن السوري تحت مظلّة "الحزب". ومع تصاعد وتيرة الثورة السورية عاد جنبلاط ليقف ضد الأسد، إلى أن احتفَل بسقوطه، وكان أوّل المباركين للرئيس السوري الجديد أحمد الشرع. حتى هنا وفي مباركته السريعة، اعتبر كثيرون أن جنبلاط يُباركُ خوفاً ويحسبُ ألف حساب للمرحلة الجديدة، لكنّ خوف جنبلاط هذه المرّة لم يكن من الشّرع فالرئيس السوري الجديد ينفّذ أجندة دولية، وجنبلاط أعلم بكل هذه الخطوات، لكنّ خوفه بدأ يكبر من الزعيم الدّرزيّ السوريّ موفّق طريف المدعوم أيضاً إسرائيلياً.
هنا كان لا بدّ من أن يسعى جنبلاط إلى المحافظة على الزعامة الجنبلاطية، ولا سبيل إلى ذلك إلّا عبر ركوب موجة مقاومة إسرائيل وحمل لواء العروبة. وإذا كان صحيحاً بأن جنبلاط مُهتمّ بعروبة الدروز، فعليه الوقوف خلف وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وعليه أيضاً معارضة المشروع الفارسي في المنطقة، والذي يشكّل تهديداً للعروبة يُضاهي التهديد الإسرائيلي. وهذا ما لم يُظهره جنبلاط طيلة أخذ "حزب اللّه" لبنان أسير حرب "إسناد" غزة، ويوم تشييع السيّد حسن نصرالله ببيان حزب جنبلاط الشهير الذي اعتبر هذا اليوم يوم تضامن وطنيّ. وهل نسيَ جنبلاط حرب الجَبل ضدّ المسيحيين وكيف أنه استعان بالإسرائيلي لضرب المسيحيين يوم كان خوف جنبلاط من سيطرة مسيحية على الجبل؟
في قاموس جنبلاط الزعامة قبل كل شيء، وقبل مصلحة لبنان واللبنانيين، وقبل مصلحة الدروز أنفسهم، وتخوّفه اليوم من زعامة طريف تدفعه إلى إدخال لبنان بصراعات جديدة مع إسرائيل وغيرها، لعلّه تحت شعار العروبة وتسويق فكرة المقاومة من جديد يُنقذ زعامته الجنبلاطية. فهل يحاول جنبلاط أن يرث حسن نصرالله بعدما ورث سابقاً كمال جنبلاط ومن بعده رفيق الحريري؟ ومتى سيعود بمؤتمر صحافيّ جديد ينعى فيه المقاومة ويصوّب خيارات العروبة ويدعو دروز لبنان إلى التأقلم مع الشرق الأوسط الجديد؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك