شهدت الانتخابات النيابية في أيار 2022 سيطرة تامة للثنائي «حركة أمل» و«حزب الله» على المقاعد الشيعية الـ 27 في البرلمان اللبناني، بعدما مُهِد لها في انتخابات 2018 بعد خرق واحد تمثل بوصول النائب الراحل مصطفى الحسيني شقيق رئيس مجلس النواب الراحل حسين الحسيني عن المقعد الشيعي في جبيل على لائحة «عنا القرار»، المدعومة من حزب «الكتائب اللبنانية» والنائب السابق فارس سعيد والنائب فريد هيكل الخازن، وبفشل لائحة مرشح «حزب الله» الشيخ حسين زعيتر من الحصول على الحاصل، ورغم قيام الحسيني بزيارات مجاملة وودّ لنبيه بري والشيخ نعيم قاسم، إلا أنه لم يكن ضمن كتلتهم النيابية، وشكل مع النائب فريد الخازن كتلتهما المستقلة.
في انتخابات 2022، سيطر «الثنائي» على المقاعد الشيعية بشكل واضح وحاسم وحصل نواب «حزب الله» وفق ماكينته الانتخابية على344882 صوتاً بفارق أكثر من مئة وخمسين ألف صوت عن نواب «أمل» الذين حصدوا 190663 صوتاً، متسيداً الساحة السياسية الشيعية كصاحب أغلبية شعبية مطلقة في ظل تراجع شعبية «حركة أمل» أمام «حزب الله». والسؤال هنا: لماذا هذه السيطرة المطلقة على الحياة السياسية الشيعية اللبنانية، ولماذا اندثر أثر من كان قبلهم؟ لعل الإجابة تكون في هذا العرض التاريخي التوثيقي للحياة السياسية لشيعة لبنان منذ إعلان دولة لبنان الكبير حتى سيطرة جماعة «ولاية الفقيه المطلقة» المتمثلة بـ «حزب الله» على القرار السياسي الشيعي.
الزعامة الفردية عنوان الشيعية السياسية
بعد إعلان دولة لبنان الكبير، بدأت الحياة السياسية تدب في الدولة الجديدة وبدأت تدخل إلى المناطق الشيعية وبخاصة بعد الاعتراف بها عام 1926 كطائفة تتمتع بكامل حقوقها الدينية والمدنية، وهي التي خرجت لتوها من قرون من الاضطهاد والظلم خلال العهد العثماني وقبله المملوكي. في هذه المرحلة، كان الفقهاء ورجال الدين في لبنان ينحون إلى المنحى الوعظي الإرشادي، ويتجنبون الوقوع في «المحظور الفقهي» والدخول في المتاهات السياسية التي غالباً ما تكون متعارضة مع مفهوم «فقه الشيعي». وفي ظل الهدوء والانكفاء السياسي لرجال الدين، انقسم الوجه السياسي للطائفة الشيعية بين زعماء سياسيين تقليديين من عائلات بأغلبيتها ملاّكة للأراضي (الزين، الأسعد، الفضل، حمادة، حيدر، عسيران....)،
وبين نخب مثقفة أمثال أحمد عارف الزين ومحمد حوماني وأحمد رضا وسليمان الظاهر عملت ضمن إطار نخبوي تنظيري أكثر منه سياسياً وشعبياً. وبحسب كتاب «تاريخ شيعة لبنان من الماضي الغامض إلى المستقبل المجهول» الصادر عن «أمم للتوثيق والأبحاث»، شارك الشيعة في الحياة السياسية من نيابية ووزارية خلال عهد الانتداب وفق حصص تزيد وتنقص بحسب العدد الإجمالي للنواب والوزراء.
وأعطيت نيابة المجلس النيابي لشيعة الجنوب من خلال يوسف الزين ونجيب عسيران اللذين تواليا عليها حتى عام 1943، حيث أضحت رئاسة المجلس للشيعة من خلال الزعيم البقاعي صبري حمادة.
أحزاب شيعية «غب الطلب»
بعد الاستقلال أنشأ رشيد بيضون الزعيم الشيعي البيروتي «منظمة الطلائع». وكانت تحمل شعارات شيعية إلى جانب شعاراتها العربية والوطنية. واتخذت سيف ذوالفقار (اسم سيف الإمام علي بن أبي طالب) شعاراً لها. وانتشرت في مختلف المناطق الشيعية.
وفي ردة فعل على «منظمة الطلائع»، أسس أحمد الأسعد الزعيم الشيعي الجنوبي «منظمة النهضة» التي استحدثت فروعاً في مختلف المناطق ولا سيما الجنوبية وحملت فرقها أسماء مستوحاة من أئمة أهل البيت.
وما لبثت أن وقعت صدامات بين المنظمتَين أدت إلى سقوط قتلى وجرحى، فأقدمت الدولة اللبنانية في آذار 1947 على إلغاء ترخيص المنظمتَين. خلت الساحة الشيعية من إنشاء أحزاب وطنية لبنانية تجسد الفكر الوطني داخل الطائفة.
وبقيَ الزعماء الشيعة كحالة فردية يتبعها مناصرون ومؤيدون، زعامات متخاصمة ومتنافسة في ما بينها. ورغم مشاركة بعضهم في تأسيس وإنشاء أحزاب كالنائب كاظم الخليل الذي كان أول رئيس لـ «حزب الوطنيين الأحرار»، إلا أن هؤلاء الزعماء لم يحاولوا، وحتى لم يفكروا بالتعاون في ما بينهم لإنشاء حزب وطني لبناني يتم جمع الشباب الشيعي في إطاره تحت العنوان والنهج الوطني اللبناني، ما أدى إلى تغلغل الأحزاب اليسارية والقومية إلى هذا الشباب، وأضحى للزعماء شريك جديد لم يبلغ حد الخطر والمنافسة.
الصدر وريادة رجال الدين
كان مطلع عام 1959 مفصلياً في تاريخ الشيعة في لبنان، مع وصول السيد موسى الصدر إلى لبنان بناء على رسالة تلقاها من أهالي صور وأولاد السيد عبد المحسن شرف الدين، وبتكليف من أستاذه المرجع محسن الحكيم الذي نصحه بتلبية الرسالة، فكان التأسيس لزعامة شيعية دينية في مقابل تلك الزعامات الفردية.
وبدأ الصدر مسيرته في إطار العمل الاجتماعي من خلال جمعية البر والإحسان ومعهد الدراسات الإسلامية ومؤسسة التعليم المهني و«بيت الفتاة». وكان يعتبر تدخل العالم الديني في شؤون الناس ليس تدخلاً بالسياسة.
كما ترأس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في أيار 1969 بعد انتخابه رئيساً له، وصولاً إلى دخول السياسة من بابها العريض عام 1974من خلال انتصار مرشح السيد موسى الصدر رفيق شاهين بفارق حوالى 5000 صوت على مرشح الرئيس كامل الأسعد في عقر داره في الجنوب. فانتصر عمل الصدر القائم على المؤسسات وليس على العمل الفردي. ودخلت الطائفة الشيعية مرحلة المأسسة الدينية من خلال عمل مؤسساتي وحزبي.
«جماعة الولاية» إلى الصدارة
مع تغييب السيد موسى الصدر عام 1978 بعد اختطافه في ليبيا وانتصار الثورة الإسلامية في إيران، بدأ مشروع تصدير الثورة إلى لبنان عام 1980، وتكلل بنشوء جماعة «حزب الله» درّة المشروع المؤمنة بـ «ولاية الفقيه المطلقة» بين عام 1982 و1985، وتمددها في الساحة الشيعية في مختلف المجالات والقطاعات من تربوية وثقافية وصحية واجتماعية واقتصادية، بالإضافة إلى الهيمنة الأمنية والعسكرية والدينية وصولاً إلى مصادرة القرار الشيعي، ومن ثم تحولها كمرشد للسياسة اللبنانية تقبض على القرار اللبناني عن طريق التعطيل ثم الفرض والهيمنة.
لا يمكن إنكار عوامل كثيرة ساهمت في اندثار الزعامات الفردية التقليدية، منها الحرب الأهلية، واحتلال النظام الأسدي للبنان، والترهيب والترغيب وغيرها.
لكن ما هو أكيد، أن هذه الزعامات على مساحة نصف قرن تسيّدت الساحة السياسية الشيعية ولم تستطع أن تبلور تياراً وطنياً لشيعة لبنان. كما لم تستطع أن تنشئ مؤسسات تنظيمية وأحزاباً تتمتع برؤية وطنية للشباب الشيعي، وإنما تركز اهتمامها على المصالح والمناكفات والتخاصم والتنافس السياسي، فتركت الشباب الشيعي عرضة لأهواء اليسارية والقومية، وخميرة للنهج الديني وصولاً إلى تحوله وقوداً للمشاريع الإقليمية ولا سيما مشروع تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك