كتب عمار نعمة في "اللواء":
كان مظهر دولة بامتياز ذلك الذي بدا خلال تلاوة الرئيس الجديد للجمهورية جوزاف عون خطاب القسم أو "النصر".
الرجل القادم من مؤسسة الجيش اللبناني، عماد المؤسسات في لبنان، شاءت الأقدار والظروف والتحالفات، لكن ايضا تاريخه العسكري والسياسي والشخصي، ان يتصدر مشهد امس الأول في المجلس النيابي، بدفع دولي وعربي غير مسبوق، وبتأييد داخلي شعبي ورسمي يكاد يكون عارما.
مظهر الدولة صاغه الخطاب نفسه. فهو جاء في المضمون مليئا بما يعيد النهوض ويعزز المؤسسات، داخليا وخارجيا. ولعل ابرز ما يمكن التوقف عنده هو عامل استعادة الثقة بلبنان الذي يمثله وصول عون ليطلق صافرة البداية لعملية تشكيل طويلة للسلطة.
قد يكون احد اعلى اسقف الخطابات التي يلقيها اي رئيس لبناني مع توليه المنصب، بما يضع عبئا هائلا على الرجل قد يحمله ما لا يطيق كون العناوين تلك، المطلوب معظمها خارجيا ولعلها شكلت شروط وصول عون، لا قدرة للرئيس الجديد على تلبيتها لوحده وسط انقسام مرير وأفخاخ ستحملها الفترة المقبلة.
لكن في قراءة للخطاب، هو يشبه الرجل نفسه الذي، للمناسبة، عمل على التصدي للانقسامات والمافيوية في مؤسسته نفسها، لكن رئاسة الجمهورية التي باتت عارية من صلاحياتها الكبرى التي وسمت رئيس ما قبل الطائف، يقع على عاتقها مقاربة قضايا داخلية وخارجية سيكون عون، الوجه المقبول، الرمز المناسب لاستجلاب الدعم الخارجي لها.
بلغة الواثق كرر عون مصطلح "عهدي" مرارا موجها كلمته الى اللبنانيين، مدغدغا هواجسهم وقضاياهم الكبرى بالنسبة إليهم، هم الذين لم تعد القضايا الكبرى الإقليمية والدولية تعنيهم بل مصالحهم الذاتية ومعاناتهم اليومية والحياتية من قبل الطبقة السياسية التي أجبر معظمها على القبول برئيس من خارج منظومتها.
لعل الرئيس الجديد يعي تماما الوضع الدقيق الذي حمله نحو قمة السلطة، عبّر عن ذلك حين تحدث عن وصوله وسط زلزال شرق أوسطي تصدّعت فيه تحالفات وسقطت أنظمة وقد تتغيّر حدود! مشيرا إلى انها ساعة الحقيقة وهو الرئيس الاول بعد نيف و100 عام على نشوء لبنان ويأتي ليعالج أزمة حكم وحكام، مطالبا بتغيير متعدد الأوجه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وغيرها..
هي مرحلة جديدة مليئة بالتحديات اعلن الرئيس الجديد مقاربتها انطلاقا من حفظ وحدة اللبنانيين حين تحدث عن الحفاظ على الميثاق ووثيقة الوفاق الوطني. ثم بعدها تأتي الوعود واهمها حكم القانون وهنا جاء عنوان حماية القضاء، مشيرا في تلميح له دلالته إلى عدالة هذا القضاء، فلا مافيات او بؤر امنية ولا تهريب او تبييض اموال او تجارة مخدرات ولا تدخل في المخافر ولا حمايات او محسوبيات ولا حصانات لمجرم او فاسد او مرتكب.
هو اعلن جهارا انه سيمارس كامل صلاحيته لكن كحكم عادل بين المؤسسات. ولفت إلى اهمية التعاون مع الحكومة المقبلة، لكن الأهم كانت اشارته إلى ان رئيس الحكومة المقبل هو شريك في المسؤولية لا خصم.
لذا فالتعاون مفتاح النجاح. اما القضايا فكثيرة ومعقدة بدءا من اقرار مشروع قانون جديد لاستقلالية القضاء، محذرا من انه سيطعن بدستورية اي قانون يخالف احكام الدستور، وان يحترم فصل السلطات ممارسا دوره الرقابي من خلال رد القوانين والمراسيم التي لا تخدم المصلحة العامة تاركا لمجلس النواب أو لمجلس الوزراء أن يعيد النظر بها.
إنتهاء عهد التكنوقراط؟
لناحية الآني من التحديات، تبرز دعوته إلى استشارات نيابية سريعة لتكليف رئيس حكومة. وبغض النظر عمن سيأتي فإن التوجه، حسب المتابعين، هو نحو حكومة سياسية وليست رمادية لناحية مزج السياسيين بالتكنوقراط. هنا ثمة صعوبات ستبرز في موضوع توزيع الحقائب وطبيعتها، بتعبير آخر مبدأ المداورة.
لكن بغض النظر عن ذلك فإن رئيس الجمهورية تحدث عن اعادة هيكلة الادارة العامة والمداورة في وظائف الفئة الأولى، وتعيين الهيئات الناظمة، بما يمكن من تحصينها في وجه الفساد.
نأتي إلى القضايا السيادية الكبرى: تشديد على كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس المجلس الأعلى للدفاع، في سبيل مفاجأة اطلقها عون في الخطاب، احتكار حمل السلاح.
صحيح ان الشعار ليس جديدا، لكن اطلاقه في هذه المناسبة في موازاة شعارات بالغة الأهمية منها ضبط الحدود وتثبيتها جنوبا وترسيمها شرقا وشمالا وبحرا، ومنع التهريب ومحاربة الإرهاب وتطبيق القرارات الدولية واحترام اتفاق الهدنة ومنع الاعتداءات الاسرائيلية، كلها شعارات تتخذ دلالاتها مع المرحلة الجديدة التي تحدث عون عنها ويعلمها الجميع، فكيف اذا اضيفت إليها لازمة خوض الحروب وفقا لأحكام الدستور بعد حرب مدمرة عاناها لبنان؟
لم يأت على ذكر مصطلح المقاومة ومثلها الاستراتيجية الدفاعية، لصالح سياسة دفاعية متكاملة كجزء من استراتيجية أمن وطني على المستويات الديبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، مع تشديد مثّله تكرار واجب الدولة على إزالة الاحتلال الإسرائيليورد عدوانه.
طبعا دغدغ الخطاب مشاعر بيئة المقاومة مع تأكيده على مواجهة الاحتلال والتعهد بإعادة اعمار ما هدمه العدوان الإسرائيلي "بشفافية"، والالتزام بالأسرى الذين "هم امانة في اعناقنا"، ليلحق بذلك في الخطاببأنه "آن الأوان لنراهن على لبنان في استثمارنا لعلاقاتنا الخارجية، لا ان نراهن على الخارج في الإستقواء على بعضنا البعض".
الرسائل للدول الخارجية كانت حاضرة سواء برفض التوطين حفاظا على حق العودة وتثبيتا لحل الدولتين او مع ذكر مبادرة السلام العربية التي اقرتها القمة العربية في بيروت العام 2002، ارتباطا بالتمسك بحق الدولة اللبنانية في ممارسة سلطتها على كافة الأراضي اللبنانية ومن ضمنها مخيمات لجوء الفلسطينيين لكن مع تاكيد الحفاظ على كرامتهم الانسانية.
وكانت دعوة للمرة الأولى إلى بناء الشراكات الاستراتيجية مع دول المشرق والخليج العربي وشمالي إفريقيا. هنا كانت لافتة الدعوة إلى منع اي تآمر على انظمتها وسيادتها وممارسة سياسة الحياد الإيجابي، وهذه جديدة تعني عدم الارتباط مع حروب ومشاكل المنطقة، والتعهد بعدم تصدير "سوى افضل ما لدينا"، في دلالة على مواجهة تصدير كل ما هو غير شرعي.
كان موضوع النازحين السوريين حاضرا، وسط فرصة تاريخية لبدء حوار "جدي وندي" مع الدولة السورية بهدف معالجة المسائل العالقة كافة، لا سيما مسألة احترام سيادة واستقلال كل من البلدين وضبط الحدود في الاتجاهين وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي منهما، وملف المفقودين وحل مسألة النازحين السوريين لما لها من تداعيات "وجودية" على الكيان اللبناني، بالتعاون مع الحكومة المقبلة والمجلس النيابي لوضع آلية واضحة قابلة للتنفيذ الفوري.
مع كل ذلك أطلق رئيس الجمهورية وعودا في اتجاه تطوير قوانين الانتخابات بما يعزز فرص تداول السلطة والتمثيل الصحيح والشفافية والمحاسبة والعمل على إقرار مشروع قانون اللامركزية الإدارية الموسعة.
وبذلك شدد عون على حماية الطائف وتطبيقه، والدفع في اتجاه اقتصاد فاعل وحفظ اموال المودعين، وهي كلها شعارات تحتاج إلى ثقة لا تأتي سوى بالأمن والاستقرار.
لكن كل تلك الوعود قد تشكل عبئا على العهد في حال حاربته الطبقة السياسية او لنقل لم تتجاوب معه في الحد الأدنى، وسيكون المحك الأول تشكيل الحكومة الأولى لعهد عون والتي تدل المؤشرات إلى انها ستكون جد معقدة!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك