لم تكد أيام قليلة تمرّ على تفجير الرئيس الأميركي دونالد ترامب "قنبلته التهجيرية" الرامية إلى نقل الغزيين إلى مصر والأردن، حتى أردفها باقتراح آخر قد يبدو "سوريالياً"، وفحواه سلخ كل سكان غزة عن أرضهم التي هُجروا إليها قبل عقود خلت، إلى دول أخرى في هجرة قسرية موَقتة أو دائمة إلى حين إعادة بناء القطاع، بل تحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" ليكون مكاناً عظيماً، بحسب وصف "المطوِّر العقاري الأميركي" الذي تفاخر في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط على مكتبه بصحبة "ضيفه الأعزّ" رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو، الذي بدا في سعادة غامرة، خصوصاً بعدما أوحى مضيفه بضرورة توسيع أراضي إسرائيل التي تبدو مساحتها صغيرة في أعين الرئيس الأميركي.
وما يسبغ مزيداً من الخيال على خطة ترامب قوله إن سكان العالم أجمع سيقطنون في قطاع غزة، كما هو الحال في "الريفييرا" بين إيطاليا وفرنسا، وهي الوجهة السياحية الفاخرة التي تجذب أثرياء العالم. والسؤال هنا، إذا سكن سكان العالم "غزة الجديدة"، هل سيبقى مكان لسكان الأرض الأصليين للعودة إلى القطاع المكتظ والضيق؟
على أي حال قد يصحّ وصف ترامب بـ "رجل الأعمال المتقلّب"، إذ لا يمكن الحديث عن سياسة واضحة المعالم يتّبعها، فهو عاد ليقول بعد أيام إنه ليس في عجلة من أمره لتنفيذ خطته للسيطرة على غزة وإعادة تطويرها.
أحفاد الفلسطينيين وكأس التهجير
إذا كان سيّد البيت الأبيض حريصاً على رفاه الغزيين بعد الحرب الإسرائيلية المدمرة ويريد نقلهم إلى مكان آمن، فإن ما قاسوه من ويلات إبان الحرب كان حُكماً أصعب مِما قد يواجهونه بعدها، بمعنى آخر فإن مَن لم يُغادر أرضه تحت النار، ربما لن يطيب له تركها مع وضع الحرب أوزارها، خصوصاً أن زهاء 66 في المئة من سكان غزة هم أحفاد الفلسطينيين الذين هُجّروا قسراً إلى القطاع بعد "النكبة"، وبالطبع لن يعيدوا الكَرّة مرة ثانية، لأنهم ذاقوا مرارة كأس التهجير. أضف إلى ذلك، أنه في حال أذعن الغزيون للضغوط والمغريات الأميركية، فإن الضفة الغربية قد تكون لقمة سائغة في فم إسرائيل في المستقبل، خصوصاً مع إعلان وزراء اليمين المتطرّف عزمهم ضمّ "يهودا والسامرة" إلى أراضي إسرائيل.
ويبقى أن مقترح ترامب قد يعيد الشعب الفلسطيني برمته إلى زمن مواجهة إسرائيل، فحتى حركة "فتح" التي آمنت سابقاً بالسلام مع الدولة العبرية، قد تعيد حساباتها لتلحق برَكَب "حماس" المسلّحة. كما أن قائد سفينة "العمّ سام" يعادي بطروحاته التهجيرية الدول العربية التي اعتُبرت في العقود المنصرمة صديقة للولايات المتحدة ولم تعارض سياساتها في المنطقة.
وفي الجانب الإسرائيلي، وإذا كان نتنياهو أخفق على مدى شهور في ابتداع خطة "اليوم التالي" لغزة بعد الحرب، فإن اقتراح ترامب شكّل له خشبة خلاص، لذلك سارع إلى تلقّفه بتأكيده أن تل أبيب تتعامل معه باعتباره خطة "اليوم التالي". وأكثر من ذلك، فقد عبّد اقتراح ترامب الطريق لنتنياهو للذهاب بعيداً، فاتحاً شهيّته على السعودية، فالأخير لم يجد أي وَجَل في القول إن المملكة لديها مساحات شاسعة وبإمكانها إقامة دولة فلسطينية على أراضيها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك