فعلها الحريري واستقال. كثيرون توقعوا أن يخاف. والخوف ليس فقط من أن يُدَفِّعه «حزب الله» و«التيار الوطني الحرّ» ثمن إطاحته التسوية، بل الخوف أيضاً من أن يكون لقراره ثمن باهظ يدفعه البلد. فهو لا يعرف بالضبط ما سيجري بعد الاستقالة: حكومة نظيفة تلبّي طموحات «الانتفاضة» أم فوضى تفتعلها القوى النافذة؟ ولكن، في أي حال، سَحب الحريري يديه من الأزمة. وإذا كان شريكاً أساسياً في المنظومة التي أوصلت البلد إلى الكارثة، فإنه غسل أيديه مسبقاً من أي تطورات آتية!
وضع الحريري أركان الانتفاضة أمام التحدّي: هل ينسحبون من الشوارع ويتابعون جولات النضال من مكاتبهم وجامعاتهم ومدارسهم ومؤسساتهم؟ أم يواصلون الضغط لإجبار الطاقم السياسي على تنازل جديد؟ أم يقيمون تسوية بين الخيارين؟
على مدى 13 يوماً، كثيرون طالبوا المُنتفضين بالخروج من الشارع بعدما أثبتوا حضورهم، لكنّ هؤلاء أصرّوا على البقاء. وفي رأيهم، إنّ انسحابهم سيعيد الوضع إلى ما كان عليه عشيّة 17 تشرين الأول، وهو يختصر بالآتي:
1 - صعد الدولار من سعره الرسمي مقابل الليرة إلى سقوف أعلى بين الصيارفة وفي التعاملات التجارية (1600 ليرة - 1700 ليرة). فيما أبقى حاكم المركزي رياض سلامة على التسعيرة الرسمية الثابتة للتعامل فقط في المصارف.
ولذلك، بدأ شحّ الدولار في السوق، وتوقفت نهائياً عمليات التحويل إلى الدولار في المصارف، أي بالسعر الرسمي. وهذا يعني أنّ فقدان الليرة جزءاً من قيمتها قد حصل عملانياً وبدأ يتّسع قبل الحراك.
2 - كان أركان الحكم في أقصى استنفارهم للحصول على دولارات من الخليج العربي أو مساعدات من الجهات المانحة في «سيدر»، لعل ذلك يؤخّر الانهيار، كما اعتادوا أن يفعلوا منذ سنوات. ولكن لم يتمكن الحريري من تحصيل دولار واحد في زيارتيه الأخيرتين لفرنسا والإمارات العربية المتحدة.
3 - كان الأميركيون يضغطون على الحكومة اللبنانية وقطاعه المصرفي، ويوجّهون إليه تحذيرات واضحة من مغبّة استمراره منصّة لنفوذ «حزب الله» وأعماله الأمنية والمالية في العالم. وتسارعت الإشارات بقوة في الأسابيع الأخيرة مُحذّرة من أخذ لبنان وقطاعه المصرفي في جريرة العقوبات على «الحزب»، إذا لم يتبدّل هذا الواقع.
4 - كانت قد انتهت على مَضض أزمات شراء المحروقات والقمح والدواء، بتدخّل من مصرف لبنان الذي وَفّر الدولارات للاستيراد. لكنّ مواد وسلعاً وقطاعات أخرى بدأت تطلب التعامل معها بالمِثل، التزاماً بمبدأ العدالة بين المواطنين.
5 - كانت موازنة عام 2020 تماطل في التزام الإصلاحات التي تعهّد بها الحريري أمام صديقه الرئيس إيمانويل ماكرون، متذرّعاً بأنّ الوقت لم يسمح بالتزام الإصلاحات في موازنة 2019.
6 - وهذا أمر مهم جداً، كانت قد بدأت تظهر ملامح النقمة الشعبية والانفجار الاجتماعي، لأنّ الناس لم يعد لديهم ما يخسروه، خصوصاً على مستوى الجيل الشاب النظيف والحالم، والذي شعر بأنه رهينة طبقة فاسدة تقوده إلى المجهول.
إذاً، في رأي المنتفضين، عندما يطالب أهل السلطة بوقف الانتفاضة الآن، ومن دون تحصيل كامل مكتسباتها، فإنما يريدون العودة إلى هذه النقطة تماماً، أي إلى المآزق الستة التي وقعت، وكان كل منها، في تلك اللحظة، يتجه نحو التصعيد. وهي معاً تضع البلد في وضعية كارثية خطرة جداً.
والآن، صارت المخاطر أكبر. وللتذكير: الدولار اليوم في السوق السوداء أعلى ممّا كان يوم 17 تشرين الأول، وإقفال المصارف والمؤسسات أدى إلى التغطية على الكارثة موقّتاً، وكل أبواب المساعدات مقفلة.
وزاد في الكارثة تَلهّي أهل السلطة، قبل استقالة الحريري، بالبحث عن سبل لإفشال الانتفاضة، بالقوة أو بوضع شارع مقابل شارع، أو بالخداع من خلال «ورقة الإصلاحات» الوهمية.
إذاً، بالنسبة إلى العديد من المعنيين بالانتفاضة، إنّ العودة إلى واقع 17 تشرين، من دون استكمال الانتصار الأولي الذي تحقق باستقالة الحريري، قد يضيع جهود الانتفاضة، بل إنه يضع البلد على المنزلق الخطِر الذي كان ينزلق فيه قبل 17 تشرين الثاني.
ويقول هؤلاء: إذا كانت هناك نيّات جدية للإنقاذ، فمن الممكن تأليف الحكومة الإنقاذية في مدى لا يتجاوز نهاية الأسبوع الجاري. فإذا تحقق ذلك يصبح وارداً أن تدرس الانتفاضة خطتها الجديدة للمرحلة المقبلة.
ولكنها، كما كانت واعية وحكيمة ولم تنخدع بورقة الإصلاحات المزعومة، وفرضت استقالة الحريري، فإنها لن تنخدع ولن تتسرَّع وستنتظر من أهل السلطة أن يتقدموا خطوات أخرى في طريق الإنقاذ.
ويضيف هؤلاء: سننتظر ولادة الحكومة التي تلائم تطلعاتنا، حاملة برنامجاً إصلاحياً شفافاً. وعندئذٍ، بَدل الخوف من انهيار الليرة عند فتح المصارف، يمكن الرهان على انقلاب الصورة من سلبية إلى إيجابية. فعلى الفور ستتبدّل نظرة المجتمع الدولي، الولايات المتحدة، فرنسا والجهات المانحة وفق «سيدر» والخليجيين. وسيُبادر المغتربون إلى العودة بأموالهم بعد غياب.
وهذا سيقود إلى عودة الثقة، وتوفير سيولة بالدولار، ووقف انهيار الليرة. ووفق بعض خبراء المال، يمكن أن تنشأ فوراً ردّة مُعاكسة فيحصل إقبال على العملة الوطنية، فتستعيد مستواها السابق مقابل الدولار، أي الـ1500 ليرة.
لذلك، استطاع الحريري باستقالته أن يفتح الباب للحل. وثمة مَن يعتقد أنّ استقالته في اليوم الثالث عشر أفضل للانتفاضة من استقالته في اليوم الثالث. فلو استعجَل بعد 72 ساعة من انطلاقها واستقال لكانت «نفَّست» قبل أن تُظهِر قوّتها الجماهيرية.
وثمة مَن يقول: ربما لهذا السبب، حرصت واشنطن والسفراء الأوروبيون، في الأيام الأولى، على دعوة الحريري إلى عدم الاستقالة. في السياسة، المواعيد لها أهميتها.
الإثنين المقبل، 4 تشرين الثاني، ستكون ذكرى مرور عامين على أزمة «استقالة» الحريري الشهيرة. آنذاك، عانَد الحريري ودعمَه شركاؤه ليتشبّث بحكومته.
إذا لم تكن هناك مناورة ما، تشبه «الورقة الإصلاحية»، خلف الأكمة، فإنّ الحريري يكون قد «انقلب» على 4 تشرين الثاني وشركائه... وعملياً فكّ ارتباطه بالتسوية.
ويكون هو أيضاً عاد إلى ما قبل خريف التسوية، خريف 2016، وربما إلى ما قبل شتاء 2011، الشتاء الذي جرى فيه إسقاط حكومته باستقالة الوزير الملك، وكان سقوطه عظيماً. والآن، إلى أين؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك