وحّدت «الثورة»، كما يصر الحراك الشعبي على تسميتها، اللبنانيين بالشعارات والتطلعات والقناعات بأن الدين لله والوطن للجميع.
الاحتشاد اليومي في الساحات العامة والطرق الدولية أعاد الى ذاكرة اللبنانيين «عامية انطلياس» التي جمعت اللبنانيين بمعظم طوائفهم في ١٧ يوليو ١٨٤٠ رفضا لسلطة الإقطاع والضرائب الجائرة التي فرضها ابراهيم باشا وحليفه الأمير بشير الشهابي الثاني على اللبنانيين، مع فارق ان ظروف عاميات بيروت وطرابلس والزرق وجل الديب وزحلة وصيدا وصور والنبطية، مختلفة عما سبق من حيث الأهداف والتطلعات ومن حيث الوحدة التي تبدو أقوى من أن تنال منها سموم الفرز الطائفي الذي استغاث به إقطاعيو ذلك الزمان لتشتيت «عامية طارئون شاهين» حامل راية تلك الثورة.
هنا، في ساحة رياض الصلح يتراءى للقادم من بعيد انه غير ذاك الذي عرفه قبل السابع عشر من أكتوبر، ساحة مفتوحة للجميع لكل الناس، كبارا وصغارا، شبابا وشابات أتوا إليها وأفرغوا ما بدواخلهم من غضب وقهر أتى على نحو معبر في أشكاله وتنوعاته، عند الدخول الى الساحة من ناحية مبنى اللعازرية تطالعك يافطة كبيرة كتب عليها «هنا اسمها البلد وليس سوليدير». وأخرى «ما أخذ بقوة النهب لا يسترد إلا بقوة الشعب» «الشارع من أجل استعادة الأموال المنهوبة» «ونظامكم الفاشي الى زوال».
لم يعد الخوف عائقا أمام المحتجين الذين صدحت حناجرهم بالهتافات المطالبة برحيل السلطة العاجزة حتى عن تأمين أبسط الحقوق للعيش بكرامة، وشعار الشعب يريد إسقاط النظام من الشعارات التي كتبت في اكثر من مكان وعلى جدران المحلات وزجاج المتاجر، أما اليافطات فقد ارتفعت من ساحة رياض الصلح وامتدت الى ساحة الشهداء والى الشوارع المتفرعة منها، كما الأعلام اللبنانية دون سواها وهذا ما يميز الحراك الذي يتعرض الى تشويه من البعض بهدف الانقضاض عليه.
صور السياسيين المعلقة شطبت وجوههم في إشارة الى رفضهم وقد طالت حاكم مصرف لبنان عبارات قاسية، وشعار «كلن يعني كلن» بات الأكثر انتشارا، وعبرت إحدى اليافطات عن التضامن مع مدينة طرابلس وقد كتب عليها «استلموها 30 سنة عملوها مدينة أشباح استلمها الشعب في سبعة أيام عملها مدينة السلام». كما غيرها مع مدينة النبطية حيث نفوذ الثنائي حزب الله وحركة أمل.
وتحول الجدار الأسمنتي الشاهق المرتفع أمام مقر منظمة «الاسكوا» لدواعي أمنية الى معرض لأعمال الغرافيتي، رسومــات وشعارات لم يسلم منها احد من أركان الدولة، وبات محل أنظار المارين من أمامه لالتقاط الصور.
في الصباح الباكر يكون كل شيء على هدوئه قبل فورة الغضب، شباب يبيتون ليلتهم في الخيم تحرسهم أعين عناصر الأمن، وشابات يرسمن العلم اللبناني على وجوههن ويأتين باكرا ليتوزعن فرقا لتنظيف المكان ورفع النفايات وفرزها في أكياس متفرقة قدمتها جمعيات دأبت على المساعدة منذ اليوم الأول، مسألة النظافة تبدو أساسية بالنسبة للمحتجين المقيمين ليل نهار فابتكروا وسائل للحفاظ عليها بأن علقوا أكياس النايلون على الأعمدة وجذوع الأشجار لرمي النفايات فيها مع لصق عبوات مياه بلاستيكية خصصت لأعقاب السجائر.
وفي ساحة الشهداء، تنتشر خيم على طول المكان وقد توزعت فيها الأنشطة، حلقات حوار بين المشاركين، وغيرها تعمل على الترتيب ليوم آخر من التظاهر، فيما وسائل الإعلام المحلية والعربية والأجنبية بأعدادها الكبيرة تنتظر يوما جديدا. وقد انتشرت عربات الباعة من قهوة ومناقيش الصاج والنارجيلة وحتى لعب الورق والكرواسان وغزل البنات التي وجد أصحابها فرصة لكسب الرزق.
مشاهدات تحمل معاني قلما عرفها لبنان وتعكس أساليب جديدة ومبتكرة، وتشي بأن شيئا جديدا ولد في لبنان.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك