هذه الدورة من الانتخابات النيابية تختلف في كثير من جوانبها عن سابقاتها، خصوصاً، بعدما عاد «حزب الله» من مهمة مقاومة إسرائيل (تحرير الجنوب من العدو الإسرائيلي وتسليمه إلى إيران)، وبعدما استُنهضت بقايا الأسد، بالاحتلالات الروسية والإيرانية، ووجّه إلى لبنان شطر بوصلته، للعودة إليه، كوصاية، بات التحدّي أكبر. فالدولة الفارسية تشهد انكسار «هلالها» في اليمن والعراق وسوريا، وحصاراً دولياً، يتجسّد بالعقوبات والتهديد بإلغاء الاتفاق النووي بينها وبين أميركا، وانتكاس وضعها الاقتصادي إلى أدنى المستويات، تحاول، تعويضاً، (وبالطرق الديموقراطية!..) ومن خلال حزبها، الحصول على الأكثرية البرلمانية، لتكون ممراً لها، في مواجهة وضعها الداخلي، والعالمي.
فالأسد، الذي «انتصر» على شعبه، بواسطة إيران وروسيا، يريد أيضاً أن يكون له مَن يجهر باسمه في لبنان، رسمياً، وعبر «الدولة»، ويظهر للعالم أنّه ما زال «رقماً» في بلاد الأرز، بعد خروجه المُهين منها.
فلعبة الطرفَين، واحدة، ومعركتهما واحدة. ولا يمكن تحقيق بعضها إلا بمحاولة زعزعة تيار «المستقبل» وزعيمه الرئيس سعد الحريري، وتحجيمه، كقوّة كبيرة تواجههما.
وهنا، بيت القصيد: لملم الأسد «مرتزقته» وزبائنه، وأمدهم بكل الوسائل المادية لخوض الانتخابات في بعض المناطق، مع حزب إيران، لعلّه يخترق لوائح الحريري، ويسقط بعض رموزها، وما يجمع الإثنين، مسألتان ملحّتان أولاهما المحكمة الدولية، وثانيتهما التحقيقات بشأن استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي، ليضاف إلى ذلك، استجداء «شرعية» من شراذمه، المتسلّلين إلى الانتخابات، إما جهراً وإما بأقنعة «المجتمع المدني»، أو بعض المستقلّين.
الهدف الأسمى بالنسبة إلى نظام خامنئي، وإلى حزب إيران، يتركّز في عدة مناطق حسّاسة تُشكّل مراكز قويّة للحريري، كبيروت، وطرابلس، وصيدا، وعكار وعرسال... هنا التركيز، على مضاعفة المرشحين واللوائح في بيروت، المتسلّلين باسمهما، مدفوعين بالدعم المالي وغير المالي، لاختراق جبهات الحريري واللوائح الأخرى..
فهذا الأخير قد كبُر، وتعاظم حضوره، وجمهوره، (خصوصاً بعد عودته من السعودية)، وبدا كأنه أكبر زعيم لبناني في بيئته وأبعد منها. فلنُحجِّم «المارد»، وها هو قانون الانتخاب بصوته التفضيلي يمكن أن يفي بالمهمة.
في بيروت الثانية ثماني لوائح، وجلها لن يصل إلى حدوده المطلوبة للفوز، لكنه، في المقابل «يخترق» لائحة «المستقبل»، ويُهدّد بعض مرشحيها. وكثيرون يعرفون أن بعض المراجع الحكومية السابقة (القمصان السود)، قد «موّل بعض مرشحي بيروت»، لأداء هذه المهمة. فهي عرين الحريري (6 أعضاء للسُنَّة)، وهي متنوّعة. إذاً، فلنلعب هذه اللعبة التي غالباً ما يلعبها الصغار. ونظن أن جولات الحريري في المناطق، وصولاً إلى الجنوب، أظهرت قوة هذا الزعيم الشعبية الجارفة. وهذا ما ضاعف «جهود» الوصايتين الإيرانية والسورية، على نسج المؤامرات، واستخدام الأسلوب الشعبوي والأكاذيب والشائعات، بل وإلى خطاب «وطني» مزعوم سيادي عند بعض مرشحيهم. وهي شعارات 14 آذار أصلاً، وتالياً تيار «المستقبل» «تبنّاه» وسترفع في بيروت تملقاً لجمهور تلك المدينة. بأقنعة وبلا أقنعة، يخوض جماعات «شكراً سوريا وإيران»، معركتها ضدّ الحريري. سياسة التسلّل، ولَبوس أفكار الآخر، أو بعض الظواهر كالمجتمع المدني، أو الشبابي أو الديموقراطي..
النصر
الجانب الآخر من المعركة عند «حزب الله» أنه يحتاج «إلى نصر» انتخابي ما، بعد هزيمته المدوية في سوريا، وبعد تكبيد «مجتمعه» ألوف القتلى والجرحى خدمة لمصالح الملالي في سوريا. وبعدما أحسّ بأن ثمّة خلخلة في قواعده المذهبية، وتبدّد هالته، وصدقيته، عند الكثيرين ممّن كانوا «يقدّسونه». والدليل تلك الانتفاضة العفوية التي عبّر عنها بعض الشباب في الضاحية، استنكاراً لانخراطه في الحرب السورية، وتجاهله تحقيق أي إنماء في مناطقه، أو تحسين أوضاع الناس، والبنى التحتية، والعمل ازداد هاجسه. إذاً العنصران الاجتماعي، والسياسي، اجتمعا. إضافة إلى اشتداد قبضة الحزب على «سكان» كانتونه، بالترهيب والتهديد مما حوَّل حبّهم له إلى خوف، لا يشبه سوى المجتمعات الخاضعة للديكتاتوريات الشمولية، والأمنية، والقمعية. فشعور الناس أنهم أعطوا الحزب كل شيء: إرادتهم، واختياراتهم، وأرواح أبنائهم، وساندوه في حروبه وغزواته الداخلية، وماذا حصدوا: لا شيء. تفاقم الفقر، والمهانة، والتنكيل والإهمال.
أحسّ الحزب بهذه الحالات التي تُهدّد «استمراره»، وها هي الانتخابات ضرورية لإثبات «وحدة» محيطه حوله. ونظن أن منطقة بعلبك - الهرمل، برزت كصورة دامغة، لهذا الخلل الشعبي، بتشكيل لوائح ضدّ لائحة الحزب. وقد واجه السيد حسن هؤلاء باتهامهم بـ"الداعشية" وبالفساد. ليردّوا عليه الردود المناسبة. هذه الاختلالات في القواعد «الاسمنتية» لم تكن ظاهرة من قبل: أهناك مَن يجرؤ على تأليف لائحة تتحدّى لوائح الحزب «المقدّسة»، لائحة القدّيسين، والشرفاء، والوطنيين، ونظيفي الأكف، وناصعي بياض الكبتاغون، والأدوية المزوّرة، والمخدرات!؟
فالحزب يريد أن يخترق حبيبه ورفيقه في المقاومة والممانعة جميل السيد كل المصاعب لينجح: إفعلوا كل شيء لتأمين نجاح هذا المناضل! فهو مطلوب للمحكمة الدولية إما للشهادة أو للاستجواب، ونجاحه يُعفيه من ذلك باكتسابه حصانة نيابية. فالنيابة لم تعد فقط لشرعنة سلاح المقاومة، بل أيضاً لمحاولة تبرئة «البعض». وها هو الحزب يزور المنازل، والعائلات، ويوزّع عليهم بونات البنزين والغاز والبرغل.. وسوى ذلك من دون أن يخلو «خيره» من التهديد، وتعميق الخطاب المذهبي. فالحزب مطلوب أيضاً، وهو على لائحة الإرهاب، وأصابه من العقوبات ما أصاب «إيرانه الحبيبة»، فأكثرية نيابية من شأنها، تجاوز كل القرارات الدولية، أو استيعابها وتعطيلها، والضغط على المؤسسات المالية الرسمية، للتحايل على القرارات الدولية. عدا أن أربعة من قدّيسيه الأبرار متّهمون بقتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
الضرورة
وبعد تحليل هؤلاء للوضع، اقتنعوا بأن النجاح في الانتخابات ضرورة مصيرية في هذه اللحظة من تاريخهم المجيد. ذلك أن المسألة لا تتوقف عند محكمة دولية، أو عقوبات، بل لأنها، إلى كل ذلك، تؤمّن فرصة «العمر» للحزب وبشاره لتغيير بنية النظام اللبناني نفسه. فموسم القطاف قد حان. وأن عصر «الديموقراطيات»، والليبراليات، والأنظمة السيادية، قد مضى. وعليهم أن يماشوا العصر الديكتاتوري في إيران، والصين.. فالديموقراطية بالنسبة إليهم هي أصلاً لزوم ما لا يلزم للشعوب «المؤمنة»، والثورية، والممانعة، والمقاومة.. وباتت «موضة» قديمة حتى عند بعض الشعوب الراسخة فيها، كبريطانيا، وفرنسا، وأميركا، والمجر.. فلماذا يستثني هذا البلد الصغير نفسه؟ وعليه، فإن قطار الشعبوية، والقيادات الخالدة، سواء الطائفية منها، أو العائلية قد تحرّك، وعلى اللبنانيين أن يستقلّوه بقيادة هؤلاء. فالنظام مُستهدف، وكذلك الانتماءات الفكرية والسياسية، والثقافية.. وفي مقدمها العروبة، أي عروبة، مصرون على أن يبقوا اثراً لها، فالمعركة مذهبية نعم! عممناها، وغذيناها، وأنجبنا منها وحوشاً، ومسوخاً، لكنها معركة، لا تقتصر على السُنَّة والشيعة فقط، بل تتجاوز ذلك إلى الاثنيتين العربية والفارسية! فبشار سبق الجميع إلى هذه الجنة الجديدة. و«حزب الله» (اللبناني) من صلبها، وذرّيتها، ولهذا عندما يتملّى الحزب أوضاع العالم العربي الراهنة يتنفّس الصعداء فرحاً: «فبعض العالم العربي، بفضلنا، مدمَّر، ومُهجَّر، ومقتول، ومسجون.. نحن عندنا «الهلال المذهبي» وأنتم عندكم «بلد» صغير، محدود، غير موجود على الخريطة، وإن وُجد، فبفضل مقاومتنا المظفرة في 7 أيار - بيروت، وتظاهرة «القمصان السود» وجهادنا «الإلهي» في قتل السوريين، واقتلاعهم، وتدمير قراهم ومدنهم! وهذا دليل على «طموحنا» العظيم الذي امتدت خيراته وبركاته إلى «اليمن»، و«العراق»، والكويت والسعودية.. والإمارات، وفي كل بقعة عربية - سُنِّية!
نجحنا في إرهاب هذه البلدان أو تفتيت حدودها وتاريخها وديموغرافيتها.. يبقى لبنان (وسواه طبعاً)»
اللحظة المناسبة
«وها هي المناسبة الانتخابية فرصة تاريخية، للهيمنة عليه، وإلحاق مصيره بمصير «أشقائه» العرب. نحن اعتمدنا سياسة الكانتون.. وعندنا منه العديد، ولغة السلاح، وعندنا منه ما يفيض عن الدول (طبعاً ما عدا إسرائيل!، هذا نتفهمه)، و«العدو» المرحلي الأساسي في وجه مخططاتنا هو 14 آذار.. التي نجحنا في «شرذمتها»، ولم يتبقَّ منها إلاّ القليل، ومنهم تيار «المستقبل» وخصوصاً بزعامة سعد الحريري. وفي هذه المعركة «الجهادية» الإيرانية، (والبعثية الفارسية)، تُباح كل الأسلحة: النفاق، الكذب (والكذب ملح الرجال الرجال!)، والعنف، والإقصاء... والمال، والترهيب. إنها معركتنا الشرعية، لكن، هناك عقبة كأداء في طريقنا إلى جنّة السلطة، هو: سعد الحريري (كما كان والده قبله...)، فلنشتت قواه، ونحاصره، خصوصاً في بيروت. وأي بيروت هذه يفتخر بإعمارها الحريري الأب، ويتبنّاها الابن. ففي لحظات معدودات اكتسحنا هذه «اللؤلؤة» في الشرق. ودسناها، وهشمنا اقتصادها. وسيجناها بالترهيب دون أي بلد عربي أو أوروبي.. أو أميركي. فلتَمُتْ وحدها: كانت واحة بالنسبة إليهم وسنحولها صحراء».. هذا ما يدور في أذهان الحزب - بشار، «ويكفي أن ننقض مقولة إن الحريري سيد الساحة فيها، بإسقاط العديد من مرشحي لوائحه، حتى تستمر رحلة تدمير مدينتها، وحضاريتها، المزعومتين، لتحويلها مربعاً أمنياً مستباحاً يُرجعها إلى عصر «الميليشيات» فتموت من تلقائها، ولا مَن يعينها».
البذور
وهنا بالذات، نتأمل بذور «حزب الله» التي أينع بعضها: لوائح، مرشحون بشعارات عديدة، يترجم اسم بيروت عليها، عند هؤلاء الذين دفعتهم بعض طموحاتهم غير الناضجة، أو ارتباطاتهم بالحزب وحلفائه، لكن أي شعارات هذه، تتجاهل عروبة بيروت، ودورها التاريخي، ومركزيتها الوطنية، والرمزية، ولا تشير إلى ما ارتكبه الحزب وبشار فيها في 7 أيار. أيستولي غزاة بيروت عليها، باسمها؟ أتضرب انتماءات بيروت السيادية والاستقلالية، والديموقراطية باسمها؟ وضعوا بيروت اسماً للوائحهم لتصبح بلا مسمى، سواء عن حسن نيّة، أو عن سوئها. أما ذوو النيّات الحسنة فهل يدركون أن تهشيم لوائح الحريري في المدينة، يخدم هؤلاء، ومخططاتهم وأيديولوجياتهم الشمولية؟
وطرابلس
نتكلم عن بيروت، لنشير إلى طرابلس مثلاً: لم تتعرض مدينة لبنانية للانتهاك والقصف والقتل والإهانة كما تعرضت له الفيحاء، على أيدي حافظ الأسد وشبله، ولم تعرف مدينة، استباحة ناسها، وحرياتهم، وميولهم، كما استبيحت هذه المدينة: زرعوا فيها المتطرفين، والمجرمين، وأشعلوا فيها حروباً مذهبية، وأحرقوا مكتباتها، وحاولوا تهجير بعض مكوناتها.
طرابلس وجه بيروت الآخر. وصيدا لا تقل عنهما تعرضاً لأمنها، بشعوبية سافرة، وباعتداءات نظمتها سرايا الحزب، واغتيالات، وترهيب. طرابلس، هذه هي مدينة العلماء والفقهاء والكتّاب والشعراء والمناضلين. يريدون، عبر تفتيت إرداتها بلوائح ملغومة، أو مسيَّرة لإسقاط لائحة الحريري، أو اختراقها، ليتسنّى لهم، بعد ذلك، توفير مصير لها، كمصائر المدن التي استباحها الأسد، وعملاؤه، ومخابراته في سوريا.
من هنا، لا يمكن فصل أي مدينة أو قرية أو بلدة عن بعضها، بالتفاضل، أو المعادلات، لأن كل دسكرة في لبنان عانت المرارات، بوجود الوصاية السورية، و«حزب الله»، والميليشيات، والبلطجية.
كأن لبنان، المرة الأولى «دائرة» واحدة، تحاول جماعات الأسد وإيران، إعدامها، وتحويلها معبراً لسطوتهم وتوظيفها في خدمة أغراضهم السياسية والتوسعية!
وفيها هذا اللبنان الواحد، ينبري حزب المستقبل، و(أحزاب أخرى)، مقاومة هذه التآمرات، حفاظاً على وحدة لبنان أولاً، وعلى قيم 14 آذار، وعلى تطلعات اللبنانيين إلى بلد ديموقراطي، سيادي، حر، عادل، يستعيد دوره الطليعي العربي والعالمي!
كل هذا رهن بوعي الناخب، وتقديره، وبُعد نظره، وانتمائه، واحترام كرامته الوطنية والشخصية.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك