خطابان حافلان للسيد حسن نصرالله في مناسبة واحدة متتاليان، ومتراكبان ومتفارقان أو متنازعان في الواقع، مجموعة كليشيهات وشعارات ملمومة من مختلف موروث الميليشيات اللبنانية السابقة، ومن أفواه، وكلاء وحُفَن من دكتاتوريي إيران وسوريا وشارون وبول بوت؛ كل ما تفوهه السيد حسن نصرالله كأنما سبق أن شنّف آذاننا وكحل عيوننا حتى الثمالة والخراب والقتل والمجازر! لكن كأننا نخلط هنا «القادة» و»الرؤساء» الاستبداديين بأدواتهم. بوسائطهم أو بموظفيهم. أي نخلط حسن نصرالله بخامنئي برتبة واحدة أو نمزجه برستم غزالي أو غازي كنعان أو نستخلصه بمدام لوبان. والواقع أن السيد حسن نصرالله عندما يُطل من خلف الشاشات لا يبدو أنه يقدم نفسه كوكيل وكلاء خامنئي، بل «كخامنئي» نفسه أو كحافظ الأسد نفسه.... أو كأي «زعيم» شعبي كماو تسي تونغ نفسه! يحاول إلغاء الفارق والرتب والتراتبية المعنوية والمادية، بين العبد المأمور والسيد الآمر، بين «رئيس ميليشيا» ورئيس دولة... هكذا، يقلد هؤلاء بكثرة الخطب وطولها، وبتجميع شبيحة ومخابرات للتصفيق، وبفلش جمهوره تحت، وهو فوق أعلى منهم: هو ينظر إليهم من عَل، وهم يصفقون له من تحت. انها مشاهد مألوفة لدينا منذ أكثر من سبعين عاماً، عندما شرفنا دكتاتوريو «العصر العرب واسرائيل وثم إيران.... ينتصبون أو يتربعون فوق... والناس واقفة تحت بانتظار «معجزات» «المُلهم»، أو «القائد» أو المرشد!
إذاً السيد حسن مجرد وكيل قد يختلق نفسه أحياناً وكأنه صاحب الوكالة، كمثل الجندي الذي يلعب دور الكولونيل! شيء يسرّ الخاطر، يُفرح القلب ويؤنس النفس!
هناك بضع صور تجسد هذه المشهدية: صورة السيد حسن وهو يقبل منحنياً بخشوع يد المرشد الأعلى في طهران، وصور أخرى عديدة له يمارس فيها سلطة «الحاكم بوكالة الله» أو بإرادة الملايين من الجماهير. هناك صورة الخضوع المطلق في إيران، وهنا أي لبنان صورة «صانع» التاريخ ومُغير الأحوال ومالئ الدنيا وشاغل الناس. أهي الميغالومانيا عندما يتماهى شخص بمن هم فوقه وأسياده؟
[ التقسيمات
لكن لو كانت هذه «التقسيمات» المُحدودبة في مسرحية أو فيلم، لأكبرنا الممثل الذي يلعب دور الملك (كما في ألف ليلة وليلة) لكن هذه المسرحية تحولت تراجيديا في لبنان والعالم العربي. لم تعد تراجيكو - ميديا بل تراجيديا مضاعفة عندما نلاحظ أن «استئساد» السيد حسن في لبنان وخنوعه في إيران، يشكلان الخطر الأدهى. فإذا كانت استراتيجية خامنئي (كمثيلتها الاسرائيلية) تدمير لبنان وكيانه وتاريخه وجغرافيته وشعبه فمن الطبيعي القول «ان زعيماً فارسياً يريد تخريب بلدنا خدمة لطموحاته». أما عندما يفعلها بحذافيرها السيد حسن كلبناني ولد ونشأ في الجنوب، فنعرف إلى أي مدى تجتمع الحالتان: تنفيذ أوامر السيد الطهراني، لكن في الوقت نفسه نسب ما يترتب عن ذلك من انتصارات وهمية لنفسه. وهذا بالذات سر ابقاء خامنئي السيد حسن على رأس حزب الله أكثر من عشرين عاماً... ذلك لأن من أشرنا إليه اعجب الولي الفقيه: نرجسية فردية عند وكيله، يرافقها خضوع تام له. كأنها لعبة تحقيق الذات بتحقيق مخططات شخص آخر. وهذه الثنائية التغريبية (كتغريبة بني هلال)، هي التي تُريح السيد حسن وخامنئيه.
يقول السيد حسن إنه ذهب إلى سوريا. «انه» بصيغة الضمير المتكلم الفاعل! «لحماية مقام السيدة زينب». لكنه لم يذهب بل أُرسل إلى سوريا بتوكيل شرعي من إيران. والغريب انه من فرط «ادعائه» القرار المستقل والحر يصدق أن قراره حرٌ ومستقل. وعندما يقول في احد تصريحاته «إن اسرائيل ليست هي الأولوية الآن (وهو يذبح الشعب السوري) يوحي ان هذا الموقف جاء من «بنات» أفكاره! وعندما يتكلم عن انتصارات أخيرة في سوريا، ينسب إلى نفسه (أي إلى مقاتليه وهم أولى ضحاياه) النصر، لا إلى بوتين، ولا إلى حتى «فيلق القدس» وزعيمه المجرم سليماني! يتكلم لإثبات حزبه في سوريا وكأنه ثباته شخصياً في الميدان!... انه «التعملق» شهدنا أمثاله عندما صفى النظام السوري المقاومة الفلسطينية في لبنان بواجهات مسيحية (في تل الزعتر) وشيعية (في حرب المخيمات) من دون أن ينسب قرار التصفية إلى اسرائيل: أي القائد التاريخي الخالد حافظ الأسد نفذ ما طلبته منه اسرائيل بخضوع مطلق، في الوقت الذي ظن انه هو «الفاتح» وهو صاحب القرار... وهو «الداهية»!
لنعُد إلى ما رماه علينا السيد حسن» فهو يعتبر نفسه خلاقاً ومجترحاً مواقفَ ومواقعَ وقرارات: ولكل منا نرجسيته الخرافية أو التخريفية! يقول السيد حسن: «لن نذهب إلى مجلس النواب للتصويت على انتخاب رئيس إلاّ إذا ضمنا نجاح مرشحنا أي ميشال عون». في هذا الموقف يظن السيد حسن ان مثل هذه «المناورة» (المضحكة) انطلت على الشعب اللبناني الذي يعتبره بوصفه «مرشداً» عليه.
وها يعلن تفوقه عليهم! ويقول لهم «صدقوني»! لكن من صدقه؟ فقط الذين يحبون ان يصدقوه! أو الذين يتمنون ان يصدقوه او الذين وضعوا كل «بيضهم» في سلته. لكن ومَنْ مِن خصومه، صدقه؟ لا أحد! انه يراوغ: لا يريد لا عون ولا فرنجية ولا أحداً آخر رئيساً، لأنه لا يريد الرئاسة نفسها. فإذا كان السيد حسن يرفض الجمهورية كلها، ومجلس النواب والحكومة والجيش (إلاّ اذا ورطه في معاركه الجانبية أو غير جانبية) والشعب كله فهل سيرضى بانتخاب رئيس! تصبح المسألة كاريكاتورية. ولكن خلف «محو» الرئاسة الأولى يختبئ «المرشد» الالهي، «المرشد الصغير» في جمهورية المرشد الأكبر! لا يريد رئيساً لا ينصب نفسه مرشداً عليه «بقوة» الدستور «الآتي»: وبنود «السلة» المزمعة ودور مجلس النواب. في لاوعيه (الفرويدي) وفي وعيه الحزبي، لم يعد من صراع بين المرتبتين: لا رئيس في وجود مرشد. هذا هو «الوعي» «المضمر». اما الموقف «الظاهر« (تأييد عون) فهو لتمويه «شياطين» حلم نصرالله بمرشدية لبنان!
[ البديل المستور
إذاً هو البديل المخبأ في سريرته ووراء غبار كلامه! وأروع ما قاله السيد حسن دعوته مجلس النواب إلى «العمل بجدية لفتح أبوابه على المستوى التشريعي(!) وإلى اجتماع مجلس النواب، كذلك الحكومة لمعالجة قضايا الناس من الزبالة إلى الوضع الاقتصادي وإلى الأمن... الخ. انه يدعو بنفسه «كمرشد» البرلمان للانعقاد لكن بشروطه. (كما يفعل مرشده الأصلي في إيران). وهذه الدعوة المفخخة هي تتمة غير ناجحة لدور المجلس في انتخاب الرئيس: هنا لا يريد من «ممثلي« الشعب لعب دورهم، وهناك يريدهم ان يستقيلوا من دورهم. وهذا يذكرني بمواقف حافظ الأسد من المجلس اللبناني عندما كان يملي عليه بنوده. (إذاً ليس من جديد تحت شمس الطغاة). ويذكرني بمواقف الراحل السوري التاريخي ايضاً كيف كان يؤلف الحكومات ويدعي انه لا يتدخل في شؤون لبنان الداخلية في الوقت الذي يفرض ودائعه على اللوائح الانتخابية وعلى الحكومات! فالحكومة والرئاسة والمجلس كأنها كلها شأن سوري (كما فعلت اسرائيل بعد غزوها لبنان!) واليوم كلها شأن مرشد إيران. كأنه يبتسم ابتسامة جيزويتية ويقول لهؤلاء كلهم «تمتعوا بغيابكم، فأنا الشبح وراءكم».
أما الذكاء الساطع فيتوهج عندما يقول السيد حسن عن خصومه «راهنوا خلال اسابيع قليلة على سقوط الأسد، لكنهم عجزوا بفضل انجازات الجيش السوري وحلفائه الذين منعوا سقوط سوريا في أيدي الجماعات الارهابية المدعومة من جهات عدة!« انها المعجزة الكونية! الثامنة أو التاسعة أو المئة أو أكثر: فهو بحنكة عرفناها عند عرفات والأسد الأب (طبعاً ليس عند شبله) خلطت التواريخ والأدوار وهوية المتحاورين: فعندما كان بشار الأسد على وشك الهروب من قصره، هبت إيران لدعمه وأمرت السيد حسن بالذهاب لإنقاذ الطاغية. عندها كان الجيش الحر وحده يحارب... ولم يكن يومها لا «جماعات تكفيرية» ولا «داعش» ولا حلفاء ولا بوتين. الجيش السوري انهار في اقل من شهرين. اما الكلام على «حلفاء الارهابيين» فقد ابدع السيد حسن أولاً، بعدم ذكره حزبه ومليشيات ايران، وفيلق القدس وبوتين كحلفاء له بحيث يواصل كلامه عن اسباب ذهابه لذبح شعب عربي اسلامي سوري، مضحكاً: من حماية السيدة زينب إلى حماية قريتين شيعيتين لبنانيتين داخل الأراضي السورية، فإلى انقاذ بشار الأسد، فإلى محاربة اسرائيل من خلال الحرب على سوريا (مضحك جداً)، فإلى دُرتّه الخالدة» اسرائيل ليست من أولياتنا» وكان مقاتلوه يومئذ على مشارف الجولان المحتل: فمروا مرور الكرام. وعلى سيرة «الحلفاء» لا يجرؤ السيد حسن على ذكر ما صرح نتنياهو به في بداية الثورة الشعبية السورية: «سقوط النظام السوري كارثة على اسرائيل» ومع هذا يزعم السيد حسن انه يحارب الثورة ليتفرغ لإسرائيل!!
[ خطاب منفوخ
وعندما راح ينفخ خطابه بالتعبير عن اصراره على البقاء في سوريا... اخفى هذا «المنفاخ» الهزائم التي تكبدها الحزب، هناك.. وكلامه عن خصومه بأنهم توهموا سقوط الأسد بعد اسبوعين...» ينطبق على حساباته: بأن القضاء على ثورة الشعب السوري نزهة لا تختلف عن عملية 7 أيار!
هزم الحزب ومعه ايران فاستنجد بشار وخامنئي ببوتين. والغريب في تأكيد بقائه في سوريا وقد بات بقاؤه عبثياً «ولعب ولاد»: فهو فقد دوره ودور ايرانه اللذين خطفهما بوتين. فوجود الحزب في سوريا بات كعدم وجوده، لا يقدم ولا يؤخر سوى اهراق مزيد من دماء الشباب الشيعي اللبناني الذي اظهرت الوقائع انه يسترخصه «من أجل مصلحة الملالي. والدليل الدامغ اتهام بعض المسؤولين في ايران روسيا لتهميش دور ايران برغم «التضحيات» التي بذلتها من دماء شهدائها! ورغم كل هذا فالسيد حسن يتكلم كمنتصر وكمنتصر شخصي أحياناً! يا للهول! حالتكم بالويل يا سيد حسن.
لكن حالة الويل هذه هي التي تدفع السيد حسن إلى هذه الخطب النارية في وجه أكثرية اللبنانيين والعرب وخصوصاً السعودية. فلو كان السيد حسن علمانياً، عقلانياً، ديموقراطياً، حراً، وطنياً، مادياً، تاريخياً، وانتقد النظام السعودي بالتكفيرية والتطرف والظلم والرجعية لقلنا ربما نقبله. ميزّ سابقاً المرتزقة والعملاء بين الدولار التقدمي الوافد من ليبيا والاتحاد السوفياتي والعراق (في السبعينات) وبين الدولار الرجعي الآتي من دول الخليج: وهكذا اراحوا ضميرهم الأيديولوجي! اما انت يا سيد حسن فمجرد وكيل لنظام متخلف، ظلامي، استبدادي، فاسد، مذهبي، تكفيري، (الخميني اول من افتتح التكفيرية في القرن العشرين وان سبقه في ذلك الإخوان المسلمون).
وعلى هذا الأساس، اتراك تكون مختلفاً «بعلمانيتك» عن خامنئي واحمدي نجاد! او عن «داعش» أو «النصرة» أو اي نظام ديني متشدد او طائفي متطرف ومتعصب. لا! انت جزء من هذا الخراب الفكري والسياسي والديني ولا نظن ان من كان في مثل هذه المواقع له ان «يرشق» غيره بحجر. فايران بلا نوافذ لكي تسمح لنفسها بتحطيم نوافذ الآخرين. ولا أدري في هذا المجال لماذا لم يقع السيد حسن إلا على الطغاة والقتلة لكي يخضع لهم، وينساق إليهم امثال بشار الأسد، وبوتين، وخامنئي... أترى السيد حسن مفتوناً بشخصيات هؤلاء الكاريزماتية الساحرة لكي يتماهى بها كظل تابع أو كخادم مفتون؟ ومن ناحية أخرى: لماذا يكره السيد حسن (ومعه طغاته الابديون) «الشعوب» بحقوقها ومميزاتها، وغضبها، وثوراتها وانتفاضاتها. لماذا تكره يا سيد حسن أكثر من نصف الشعب الإيراني الذي قام بثورة 2009؟ ولماذا تكره الأحرار أمثال الموسوي وكروبي ومنتظري؟ لماذا كرهت تلك التظاهرات العارمة ضد تزوير الانتخابات الرئاسية لصالح أحمدي نجاد؟... نفهم ربما من خلال ذلك لماذا تصبح كراهيتك «خوفاً» تعالجه بالنبرة التهديدية والويل والثبور، كما فعلت بتظاهرة 14 آذار (مليون و300 ألف) لبناني طردوا الجيش السوري من بلدهم (ألهذا تكرههم؟).
لكن كل هذه التربية الحزبية التي غسلت دماغك، أقصد المذهبية، والحقدية، والخضوع، والتنكر للوطن، وللقيم الإنسانية، يمكن أن تكون جواباً، خصوصاً عندما مارسها السيد حسن على بيئته المفجوعة به، غسل أدمغة، تهديد تضليل، حرف الحقائق، نفخ النرجسية الجماعية كانعكاس للنرجسية الفردية... أولا يكون ذلك تماهياً بكل النرجسيات «العُليا» التي تربيت عليها، من مرشدية إيران، إلى عنصرية هتلر، إلى أيديولوجية ستالين، إلى ثورية ماو تسي تونغ، فإلى الإحساس بالعظمة كالقذافي وصدام وحافظ الأسد! كل هذه التربية التي قد أوصلتك لنجاح هنا، أو لإخفاق هناك، أو لطموح مريض هنا، وتسلط هناك... هي بالذات بذرة الدمار داخل طلابها، وممارسيها!
وهذا ما اكتشفه جيداً بعض 14 آذار، خصوصاً الرئيس سعد الحريري، الذي قابلك بتناقضاتك، ومفارقاتك، وأوهامك، وتبعياتك، بلغة أخرى، مدنية، بسيطة، منفتحة، مسامحة، ومبادرتاه الأخيرتان الهادئتان لكن الذكيتان جداً، بترشيح فرنجية، ومن ثم بتبني ترشيح عون، بدا أكثر حنكة منك، حنكة البساطة «المفخخة»، حنكة العقل المدني.. لأنه بكل وضوح وضعك أمام تماهياتك الشخصية، وأمام مناوراتك، فقلتها أخيراً لا أريد عون رئيساً ولو بطريقتك وأسلوبك المواربين، وأحلتها على حلفائك كالرئيس بري... سنتان ونصف من المراوغة... فهل انتهت اليوم؟ لا! فمسألة الرئاسة باتت تمسك بمرشحين فرنجية وعون، كمرشحين دائمين... ولكن من دون انتخابات رئاسية!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك