لا تكمن أهميّة القمّة الروحيّة التي يستضيفها الصرح البطريركي في بكركي اليوم في البيان الختامي الذي سيصدر عنها أو في التوصيات والخلاصات التي سيخرج بها المجتمعون، سواء تطرّقوا الى الملفات العالقة والخلافيّة بين اللبنانيّين أم حادوا عنها مكتفين بالتشديد على الثوابت الوطنيّة والقواسم المشتركة، التي يبدو أنّها آخذة تدريجياً في الانقراض، على وقع حسابات الداخل ورهانات الخارج.
فالإنجاز الثاني الذي سيدوّن في سجلّ البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، بعد جمعه الأقطاب الموارنة الأربعة منذ أسابيع قليلة (على الرغم من أنّ أيّ آليّة متابعة حقيقيّة لم تتّضح معالمها بعد) يتمثّل بجمعه رؤساء الطوائف والمذاهب اللبنانيّة، من دون استثناء أيّ فئة، حول طاولة بكركي، التي كانت لها صولات وجولات في تاريخ لبنان المعاصر، منذ قيام الجمهوريّة وصولاً الى انتفاضة الاستقلال.
وتأتي خطوة الراعي هذه في مرحلة دقيقة، يبلغ فيها الاستنفار الطائفي والسياسي في لبنان والمنطقة حدوداً قصوى. وهي تتزامن مع أيّام وصفها أحد الاقطاب السياسيّين "بالمصيريّة" انطلاقاً من أنّه إذا لم يُسجّل تقدّم في تشكيل الحكومة خلال اليومين المقبلين فعبثاً يشقى البنّاؤون!
وفي حين يبدي قادة كثر تخوفهم من فتنة مذهبيّة في لبنان، وتحديداً سنيّة شيعيّة، وتشهد سوريا أحداثاً دراماتيكيّة تعبق بالنفس المذهبي، ويعاني فيه أقباط مصر من التضييق والتنكيل، يقدّم البطريرك الراعي صورة مغايرة لما هو سائد. صورة تجسّد لبنان، الذي وصفه البابا يوحنا بولس الثاني بأنّه "رسالة" في العيش المشترك، وتعيد التأكيد على أنّ المسيحيّين لطالما كانوا المبادرين الى مدّ يدهم للشريك الآخر.
وإذا كان البعض يسير اليوم على قاعدة "من ليس معنا فهو ضدّنا" ويرفض الرأي الآخر ومقاربة الحجّة بالحجّة، فإنّ مشهد بكركي الجامع ينبغي أن يقدّم اليوم مثالاً ساطعاً على أنّ الاختلاف في الرأي مع الآخر لا يعني عدم القدرة على الجلوس معه حول طاولة واحدة والتداول في شؤون وهواجس وقضايا تجمعنا، بغضّ النظر عن الهويّة المذهبيّة أو المناطقيّة أو الحزبيّة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك