... وأخيراً قرّر نعيم عون أن يحكي. هو نعيم، ابن "أبو نعيم" شقيق العماد ميشال عون، الذي يملك في وجدان مناضلي التيّار الوطني الحر حضوراً وبعضاً من رائحة الماضي، أيّام السجون والتظاهرات والنوم في الخيم وبيع الكعك على الأرصفة وتوزيع المناشير سرّاً والكتابة على الجدران و"الزمّور"...
تغيّرت الأيّام و، على الأرجح، تغيّر "التيّار". لكنّ نعيم عون، ومعه كثر يصمتون حيناً ويحكون، ولو بخفر، حيناً آخر، قرّر ألا يتغيّر. وها هو اليوم، عبر موقع الـ mtv، قرّر أن يتكلّم بعد انتهاء محطّة الانتخابات الحزبيّة الداخليّة التي كان مراقباً لها بألمٍ وغضبٍ يفجّر بعضه في هذه المقابلة... والآتي، كما يعد، أعظم.
لماذا قرّرت أن تخرج عن صمتك اليوم؟
لم أسكت يوماً وكنت أنبّه منذ عشر سنوات على الأخطاء داخل "التيّار". ربما كان حجم الأخطاء أقلّ وكنت أظنّ أنّ الأمور يمكن أن تُعالج مع مرور الوقت، وكنت أحاول، مع آخرين، حلّ الأمور بإيجابيّة. الأمور بدأت صغيرة وكبرت وبات إطلاع الناس على الحقيقة واجباً.
فهذا "التيّار" كلّف الكثير، من شهداء وتضحيات وأشخاص هاجروا وهُجّروا وخسروا وظائفهم وتعرّضت مصالحهم لخسائر بسبب مواقفهم وبسبب نضالهم. أما اليوم فهناك ضرب للمفاهيم التي نادى بها العماد ميشال عون طيلة أكثر من 25 سنة وجُمعت في كتب ورسائل ومقابلات، ومسيرتنا وراء العماد عون كانت على أساس هذه المفاهيم والقيم، قبل أن ينشأ صراع بين القيم والمبادئ من جهة والممارسات من جهة أخرى.
أنا اليوم أقدّم شهادة للتاريخ وأدرك مسؤوليّتها عليّ، ولكن لا أستطيع أن أسكت بعد الآن عن هذه الجريمة، مهما كان الثمن ومهما كانت النتائج. ولعلّه كان يجب أن تنتهي فصول المسرحيّة قبل أن أطلّ عبر الإعلام وأتكلّم.
ألن يلحق كلامك اليوم ضرراً بالمواجهة السياسيّة التي يخوضها "التيّار"؟
شبعنا من شعارات الأنظمة العربيّة التي أوصلت المنطقة الى ما أوصلتها إليه وبعض الشعوب الى التخلّف. هناك من يتذرّع بأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة فيمرّر ما يريد. منذ عشر سنوات ونحن نراعي هذه المواجهة السياسيّة، في حين يواصلون استباحة "التيّار" على أنقاض الديمقراطيّة. ثمّ هل تريدني أن أصدّق بأنّ كلامي سيؤثّر على القرار السياسي و، خصوصاً، الرئاسي في لبنان؟
هل اخترت التوقيت لأنك خسرت في الانتخابات الحزبيّة؟
نحاول أن نتعاطى بإيجابيّة مذ فترة طويلة ولا يكفي أن تكون حاضراً لشيء ما بل المهم أن تتكوّن القناعات لدى الناس. الجميع مصدوم ممّا يحصل ويتمّ استغلال طيبة الناس لممارسة نهج الإلغاء، وبدأ الكلام منذ آب الماضي عن مؤامرة كبيرة خلفها سفارات تستهدف "التيّار"، ولم يُكشف لغاية اليوم لا عن السفارات ولا عن المخطط ولا عن المتآمرين ولم يحاسب أحد، فهل اتهام الناس هو لتبرير سياسة القمع في الداخل؟ هل يحقّ لنا معرفة من هي هذه السفارات بالإسم؟ هل يحقّ لنا معرفة هويّة المتعاملين ولماذا لم يحاسَبوا حتى اليوم؟
أريد أجوبة واضحة عن هذه الاستفهامات.
ما هي الكلفة التي تتوقّعها؟
"الجنرال" يقول إنّ الحقيقة تكلّف الإنسان أحياناً حياته. صمتُّ لأنّ هدفي كان مصلحة "التيّار"، ولكن التصرّفات الخاطئة زادت وهي تأخذ التيّار الى مكانٍ آخر، والتصرّفات التي شهدناها في الانتخابات الداخليّة الأخيرة تذكّرنا بما كان يحصل في أيّام غازي كنعان في لبنان.
ألم تكن جزءاً من التسوية التي أوصلت الوزير جبران باسيل الى رئاسة "التيّار"؟
لم تكن هناك تسوية. فليقل لنا من يتكلّم عن تسوية ما كانت بنودها. كنّا نعدّ لمعركة انتخابيّة ولكن هناك من لم يستطع الصمود لخوضها حتى النهاية. ليست مشكلتي في وصول أيّ شخص الى رئاسة "التيّار"، حتى جبران باسيل، ولكن مشكلتي في غياب الديمقراطيّة عن الحزب. "التيّار" كان الأمل للبنانيّين عموماً والمسيحيّين خصوصاً بعد الخيبات والصراعات على السلطة لدى المسيحيّين، وهو بُني نتيجة تراكم فشل بعض الأحزاب، ولكن ها هو يقوم اليوم بما كانت تفعله الطبقة السياسيّة كلّها التي أوصلت لبنان الى ما هو عليه. للديمقراطية اليوم معالم ومفاهيم واضحة متفق عليها تنطلق من مجموعة قيم وصولاً الى إشراك الناس في القرار، وهذا هو المبدأ المعتمد اليوم في الأحزاب في العالم وحتى في لبنان في الأحزاب والنقابات، فلماذا يشذّ التيار عن هذه القاعدة عبر منح شخص واحد مختلف الصلاحيّات في الحزب وتحويل الناشطين الى رعايا؟
سمِّ لنا بعض الأمثلة عن الشوائب التي شهدتها الانتخابات الداخليّة الأخرى.
الضغط الهائل وغير المسبوق الذي أدّى الى تعطيل انتخابات رئاسة الحزب في آب الماضي.
التعاميم المخالفة للنظام، وفقاً لأهواء شخصيّة.
رفض منح بطاقات لمنتسبين من دون تعليل ذلك.
الضغوط لسحب المرشّحين الى المجالس والهيئات.
الترهيب والترغيب.
مخالفة النظام لجهة ضرورة مرور سنة على الانتساب الى "التيّار" للانتخاب، ومكان تصويت الناخب.
والكثير من الأمثلة الأخرى...
لماذا لم تطعن بنتائج الانتخابات؟
نحن نعيش في شبه دولة عاجزة عن جمع النفايات. التدخلات السياسية في القضاء كثيرة باعتراف أهل القضاء أنفسهم، والجميع يعرف كيف عُدّل النظام الداخلي في أيّار الماضي. الطعن لا يوصل الى نتيجة والقضاء اللبناني لا ينفع على هذا الصعيد. الانتخابات ليست اقتراعاً، وما فعلوه كان ديمقراطيّة مزيّفة إذ ضربوا النظام الداخلي الذي أعدّوه عبر التعاميم التي تصدر، وانتزعوا حريّة التعبير عبر التشديد على أن لا معارضة في "التيّار"، فإذا كان عندي رأي مختلف كيف أعبّر عنه؟
رغم المحاولات لتجييش الناس عاطفيّاً وغرائزيّاً في هذا البلد، تبقى مخاطبة الرأي العام افضل طريقة في هذه المرحلة. وأصل الديمقراطيّة هو التباين في الآراء والاعتراف برأي الآخر، وإلا فما من شيء يميّزنا عن الأصوليّات فهي لم يعجبها من الديمقراطية إلا العدد.
كيف يمارسون الضغوط؟
واحدة من حسنات البلد أنه صغير والجميع يعرف الجميع وكل شيء مكشوف، ومن يريد أن يعرف يسأل رفاقه من عكار الى الناقورة فيخبرونه. علماً أنّني أملك الكثير من المعلومات والتفاصيل ولكن "كلّ شي بوقتو".
اللافت أنّك تحيّد العماد عون دوماً في اتهاماتك.
"الجنرال" بالنسبة إليّ هو كلّ ما كَتب وقال وصرّح. عايشت العماد عون منذ أكثر من ثلاثين سنة، وكان بمثابة أب وقائد ورمز وتعلّمت منه الكثير. هو مجموعة قيم أنا مقتنع بها وهو دفع ثمناً كبيراً بسبب قناعاته.
إلا أنّني وجدت حلاً لمشكلتي الشخصيّة مع "الجنرال" عبر اقتناعي بأنّه أدّى قسطه الى العلى وقدّم لهذا الوطن كلّ ما يمكن أن يقدّمه. ولكنّني لا أعرف ما يحصل معه اليوم، ولماذا أطلب منه أكثر ممّا يستطيع أن يفعل. نحن المسؤولون اليوم عن المستقبل والخوف هو على مرحلة ما بعد "الجنرال".
الى أين يتّجه "التيّار" برأيك؟
يتّجه لأن يكون مثل الكتلة الوطنيّة و"الأحرار" وأحزاب أخرى اضمحلّ حضورها. لقد شهدنا على انتخابات مجلس سياسي يملك رأياً أقل من استشاريّ، ومع ذلك مورس فيها ضغطٌ على الناس لينتخبوا، فكيف نسلّم الحزب لهؤلاء؟
لماذا لا تحدّد المسؤوليّات في ما يحصل؟
أحدّد المسؤوليّات، ولكن أريد أيضاً من الناس ان تطوّر الحسّ النقدي لديها لتسأل وتبحث لتكوين قناعاتها. مسؤوليّتي ألا أبقى صامتاً، وفي يوم ما سيستفيق الناس ليسألوا ماذا حصل. أنا أقول لهم، منذ اليوم، ما سيحصل.
هناك من يختصر المشكلة بشخص جبران باسيل.
المسألة ليست بالشخص بل بالنهج. جبران باسيل يمارس نهجاً إلغائيّاً. في ميثاق "التيّار" مبادئ تحفظ الاختلاف في الرأي، فكيف تتمّ المحافظة على هذا المبدأ وكيف يُحتفظ الاختلاف في الرأي إذا كانت حريّة التعبير مفقودة وهناك من يمنعك من أن تنتخب من تريد؟
قبل أي شيء أريد من الناس أن تقرأ ميثاق التيّار، الشرعة المناقبيّة، كتاب العماد عون "رؤيتي للبنان" وكتاب "النشرة اللبنانيّة"، وأن تطلب شرحاً عن معنى الكلام المدوّن فيها.
هل ستنشقّ عن "التيّار"؟
لن أرحل عن الحزب وسأبقى أناضل من أجل الإصلاح. إنّ مفهوم انتماء فرد الى جماعة أقوى من بطاقة حزبيّة. فتّش عن التعريف العلمي السوسيولوجي والبسيكولوجي فتعرف ما أقول.
هل الإصلاح ممكن مع جبران باسيل؟
الكرة في ملعبه، فليغيّر أداءه وليعدّل النظام ليكون ديمقراطيّاً. المال والمصالح لا يبنيان أوطاناً ولا أحزاباً، ولا أحد قادر على شراء كلّ الناس، بل القلّة القليلة هي التي تستفيد فقط، وما يجمع الناس هو المبادئ والفكرة والأداء.
هل هناك فساد في "التيّار"؟
هناك ممارسات فاسدة ومنطق سمسرات.
هل لديك مشكلة في الخيارات السياسيّة، كمثل المصالحة مع "القوات اللبنانيّة"؟
لا مشكلة في الخيارات السياسيّة أبداً، والجميع يعرف بأنّني مقتنع بها. أما التفاهم مع القوات اللبنانيّة فهو حاجة وضرورة للمسيحيّين، إنّما يجب أن تنتقل هذه العلاقة من التنافس الى التكامل.
إلا أنّ مشكلتي في الممارسات الداخليّة التي تهدّد الحزب بالانفجار الحتمي، إذ لا يكفي أن نرفع الشعارات بل يجب أن نمارسها.
تتحدّث عن قمع، إلا أنّكم واجهتم جيشاً محتلاً كان يمارس القمع ولم تهابوه، فهل يُعقل أن يخشى البعض اليوم من اتصالٍ هاتفيّ؟
الأمر معقّد في هذه الحالة، فـ "التيّار" ليس جاهزاً لهذا النوع من المواجهات. أن تقاتل من هو في وجهك شيء وأن تقاتل في الداخل شيئ آخر. البعض في "التيّار" تحت تأثير الصدمة بعد أن وصلت الأمور الى ما وصلت إليه، وهو لا يعرف ما يجب أن يفعله.
لماذا لا تُطلق حركة تصحيحيّة في "التيّار"؟
إنّنا في مرحلة التنبيه، وقوّة الحق والكلمة أقوى من أيّ شيئ، فليس المطلوب اليوم فتح دكاكين بل إنقاذ روح "التيّار". هناك من يتعامل مع الناشطين كمثل دعوة الحمار الى العرس، أي يطلب منه أن ينشط كماكينة انتخابيّة توصل البعض الى السلطة، ثمّ يتمّ تغييبه لأربع سنوات تسود فيها السيطرة لجماعة السمسرات والمحسوبيّات. وهذه التصرّفات يجب أن تتوقّف، فاحترام الفرد في أيّ مجموعة هو الركيزة الأساسيّة لنجاحها.
لو كان والدك على قيد الحياة ما كان ليكون موقفه؟
أفضّل عدم الكلام عن هذا الموضوع، ولا أريد استغلال ذكرى والدي في ما يحصل.
هل النوّاب شهود زور على ما يحصل اليوم؟
النواب ثلاثة أقسام: نوّاب الصورة، وهؤلاء "لا بيهشّوا ولا بينشّوا". وهناك النواب الذين التحقوا بمدرسة سليم جريصاتي لمديح الشخص، أي هم يقولون في السرّ شيئاً ثمّ يمدحون في العلن، وقد وجد البعض أنّ هذه المدرسة ناجحة لأنّ جريصاتي تبوّأ منصباً حكوميّاً وبات ناطقاً باسم "التكتل"، فكثر عدد أتباع هذه المدرسة. وهناك، على سبيل المثال، نائب شارك في "طاولة الحوار" ولم يخرج منها إلا باستنتاجٍ وحيد الى اللبنانيّين هو الإشادة بأداء الشخص.
والقسم الثالث من النوّاب مهمّش وعاجز، وهؤلاء يفكّرون بطريقة صائبة وواعين على ما يحصل إلا أنّهم يتعرّضون للتهميش.
ماذا عن خطوتك المقبلة؟
هناك الكثير ليقال، فلماذا تستعجل على قول كلّ شيئ من المقابلة الأولى. "على مهلك، كل شي بوقتو".
في مقابل ردود الفعل السلبيّة المتوقّعة على كلامك، هناك من سيرحّب به ويجد فيه بارقة أمل، فماذا تقول لهؤلاء؟
ما من أحد يستطيع إنقاذ "التيّار" لوحده، فهذا واجب الجميع ولا يمكن أن يُبنى أيّ شيئ على الكذب ويدوم. الفئة التي تعرف عليها ألا تصمت والتي لا تعرف عليها أن تسأل وتتأكد.
ماذا يمنعك من أن تتصل وتطلب موعداً من "الجنرال" لتقول أمامه ما تقوله في هذا الحوار؟
هو يعرف رأيي جيّداً وسبق أن سمعه منّي أكثر من مرّة.
هل صورة "الجنرال" المثاليّة تشوّهت بالنسبة إليك؟
ما من أحدٍ كامل في الحياة. "الجنرال" خَدَم وأعطى من ذاته للبنان وضحّى على الصعيد الشخصي، ولا يمكن أن تطلب منه أكثر. ما يهمّني هو الكلام الذي قاله "الجنرال" على مدار سنوات ولا يمارَس اليوم في حزبه، فهو سلّم الرئاسة الى شخصٍ يتصرّف بشكلٍ خاطئ، وهنا تكمن المشكلة.
ما هي رسالتك الى العماد عون؟
هو يعرف رأيي جيّداً.
ولجبران باسيل؟
هو يعرف رأيي أيضاً.
وماذا تقول للمحبطين داخل "التيّار"؟
ما من إحباط داخل "التيّار". قال العماد عون يوماً إنّ "التحرّر أصعب من التحرير". لقد آن أوان التحرّر، فليمارسوا هذا الدور. كما ردّد "الجنرال" مراراً كلاماً عن تطوير الحسّ النقدي والثورة على الذات، فأين هو الحسّ النقدي داخل التيّار الوطني الحر اليوم؟
المطلوب إذاً إمّا تغيير الأداء أو تغيير المبادئ والثوابت...
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك