فعلياً لم يطرأ أي وهن على قوة إيران الإقليمية خلال المرحلة الأخيرة بل جلّ ما في الأمر أنّ التطورات الأخيرة على الساحة العربية أظهرتها ببساطة على أرض الواقع أوهن مما لطالما كانت تدّعي وتتمظهر من عظمة و«فرعنة» على قاعدة: «.. تفرْعنت ما لقيت حدا يردني».
قبلاً كانت تتصرّف على أساس امتلاكها ترسانة إيحائية استعراضية تحاكي مجد الإمبرطوريات الغابرة العابرة للحدود. وللحق هي نجحت بقليل من البأس والقوة وكثير من الخبث والحنكة في تكبير صورتها وتضخيم حجمها في ميزان القوى الإقليمية العظمى مستغلةً عنصري الانكفاء العربي والقضية الفلسطينية. أما اليوم، فاختلفت معايير الميزان وعادت الأوزان لأحجامها المستحقة بعدما استعاد العرب دورهم وثقلهم في كفة المواجهة الإقليمية.
بعد طول «فرعنة» إيرانية على مرّ الحقبات الماضية وعلى امتداد الساحات «الفاضية»، نجحت المملكة العربية السعودية في تحقيق توازن في الأدوار وفي ترسيم الحدود والخطوط الحمر قبالة المدّ الإيراني المتقهقر والمتعثر على مختلف الساحات العربية القومية.
إيران اليوم لم تعد تلك الإيران الواثقة المعتدّة بنفسها وبجبروت أذرعها المزروعة في الجسم العربي. فبعدما كانت قاب قوسين من حصاد سياسي لا يبقي ولا يذر عربياً، أتتها الثورة السورية فاستنفدت أرصدتها المالية واستنزفت أذرعها العسكرية وأوصلتها إلى درك الاستغاثة بالدب الروسي والتشبث بمخالبه للصمود في سوريا.. حتى إذا جاءت «عاصفة الحزم» وجدت طهران نفسها أمام رياح عربية عاتية مباغتة أيقظتها من أضغاث أوهامها الحوثية في اليمن لتجد نواياها المبيّتة وخلاياها النائمة على شفير الانكسار والانحسار في أكثر من ساح على مستوى الخارطة العربية.
هو الدور العربي المفقود أوجدته «عاصفة الحزم» في الوقت المناسب قبل فوات الأوان. فتلك الإيران القوية القادرة، لطالما استمدت قوتها وقدرتها من غياب هذا الدور لا أكثر ولا أقل، وبمجرّد أن استعاد العرب زمام الدور والمبادرة حتى تكشّف الوهن الإيراني سريعاً من تحت عضلات منفوخة وسطوات استعراضية على سلسلة من العواصم العربية.
لعلّ أهمية الإقدام السعودي على الساحة القومية العربية، هو أنه أتى نتيجة قرار مبدئي بأنّ زمن الانكفاء ولّى وأوان «الحزم» آن مهما غلت التضحيات وبهظت الأثمان. كما نجاح محاربة التمدد «الداعشي» لن يكون عسكرياً فحسب إنما فكري واقتصادي ومالي أيضاً، كذلك قرار تحصين الأمة العربية والتصدي للتمدد الإيراني فيها لن يقتصر على الشكل العسكري فقط إنما سيأخذ مختلف السبل والأنماط والأبعاد السياسية والديبلوماسية والاقتصادية، بدليل أنّ «الحزم» الذي بدأت مفاعيله العاصفة عسكرية في اليمن أضحى اليوم نهج أداء سعودي عربي راسخ لا هوادة ولا تراجع فيه عسكرياً وسياسياً وديبلوماسياً واقتصادياً، حتى باتت إيران اليوم تعلم حق العلم أنّ زمن «الفرعنة» ولّى وأنّ كل خطوة تقترفها في المنطقة ستجد في مواجهتها خطوة عربية مقابلة مشبّعة حزماً وصلابةً وصولاً إلى عدم التردد طرفة عين في قطع العلاقات معها حين اقتضى الحزم ذلك.
وإذا كان الغد العربي لناظره قريب مع ما ستخرج به مقررات اجتماع جامعة الدول العربية في القاهرة، فإنّ بيان دول مجلس التعاون الخليجي اليوم سيؤسس لاجتماع الغد بصيغة حازمة قوية في مواجهة التدخل الإيراني في الشؤون العربية، على أن يتم رفع البيان الخليجي إلى الاجتماع العربي الطارئ غداً الأحد مقروناً بطلب تبني حزمه في التصدي لمسألة قومية محورية تمسّ السيادة العربية وتعرّضها للانتهاك المتمادي من قبل دولة غير عربية.. ومع بعض محاولات تخفيف اللهجة ودعوات إصلاح ذات البين من قبل العراق والجزائر وربما لبنان، ستبقى رسالة العرب غداً إلى طهران تحت عنوان عريض وحيد ليس عنه محيد: الحزم.
.. وحين تقتنع إيران أنّ السياسات العربية تجاهها تحوّلت بجدّية من ودّية إلى ندّية، حينها وحينها فقط، تصبح التسوية معها متكافئة وممكنة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك