استقبل اللبنانيون عموماً، وعلى اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم السياسية بارتياح واضح تعهد الرئيس السوري بشار الأسد بمباشرة الإصلاح السياسي خلال هذا الأسبوع على أن تكون الخطوة الأولى والحاسمة إلغاء قانون الطوارئ المفروض على السوريين منذ نصف قرن إلا قليلاً.
ذلك أن اللبنانيين طالما اعتبروا، وهم ما زالوا يعتبرون الاستقرار في سوريا ضمانة لعدم تدهور أوضاعهم المضطربة نحو الحرب الأهلية التي تشكل استثماراً ممتازاً للطبقة السياسية ولتوجهات معلنة لكثير من أهل النظام العربي الذين يريدون التخلص من كل ما يذكّرهم بتعابير من نوع «المقاومة» أو «الصمود» أو الاعتراض على مشروع الهيمنة الأميركية والذي يشكّل مظلة للاحتلال الإسرائيلي في سعيه الدؤوب لتطويع المنطقة العربية جميعاً.
وكما السوريون، فقد تمنى اللبنانيون وأكثرية العرب، لو أن الرئيس السوري قال الكلام الذي سمعوه منه، السبت الماضي، قبل أسبوعين، وأمام «مجلس الشعب»، أو حتى قبل شهرين، أو ربما قبل عامين، كما كان يردد في لقاءاته الخاصة معبراً عن ضيقه بالقيود التي تحد من حرية حركته في سعيه إلى إصلاح «النظام» ومؤسساته التي أصابتها الشيخوخة وباتت عقبة كأداء في طريق التطور الطبيعي ومواكبة العصر وتلبية احتياجات شعب أكثريته الساحقة من الشباب.
لم يكن الإصلاح السياسي، في أي يوم، ترفاً، بل هو شرط حياة. وغير مقبول أو معقول أن تحكم أية دولة بنظام ينتمي إلى حقبة سقطت من التاريخ، ويعتبر المطالبة بالتغيير مؤامرة أو القول بحرية الفكر والتعبير والتظاهر تواطؤاً مع الأجنبي، وفضح النهب المنظم لثروة البلاد بينما شعبها المعطاء يعيش في شقاء مقيم أو يهاجر إلى «بلاد الأشقاء الأغنياء أو الميسورين» ليتحمّل المهانة والجور، «مؤامرة لإسقاط النظام».
لقد تأخر النظام في تأخر سوريا عن ركب التقدم أكثر مما يجب، وكانت تلك هي الشكوى الدائمة التي يسمعها زوار دمشق من الرئيس الأسد، ومعها تصوراته لنهضة شاملة تخفف قبضة الحزب الذي لم يعد بصيغته الحالية قابلاً للحياة، بل لعله بات بين المعوقات، خصوصاً أن واقعه بات مناقضاً لانطلاقته الأولى.
لم يعد هذا الحزب التاريخي يمثل الشعب، ولم يعد يمثل ـ على وجه التحديد ـ طموحات الأجيال الجديدة، فضلاً عن أن الكثيرين يعتبرون أنه لم يعد قادراً ومؤهلاً على ممارسة ما يعطيه إياه الدستور من حقوق تجعله مصدر شرعية السلطة ومرجعية المحاسبة والمساءلة حول المخالفات الهائلة التي التهمت رصيده وجعلته على هامش النظام الذي بات «الأمن» هو حزبه الفعلي.
ويجب أن يسجل للشعب السوري أنه قد توجه إلى «الرئيس» بطلب الإصلاح. لم يخرج إلى الشارع ليطالب بإسقاط النظام، ولا هو تمثل بانتفاضات الشعوب العربية التي واجهت أنظمتها الفاسدة بصدورها العارية، وظلت في «الميدان» حتى حققت مطالبها.
كذلك يجب أن يسجل لقوى المعارضة والاعتراض أنها لم ترفض يوماً الحوار مع النظام، بل هو كان دائماً مطلبها، ثم أنها لم تبالغ في «شروطها» التي هي الضمانات الطبيعية لأية حياة سياسية في أي بلد، أي عصرنة الدولة، عبر مجموعة من القوانين والإجراءات التي تجعلها قابلة للحياة: قانون جديد للأحزاب، قانون جديد للانتخابات، قانون جديد للإعلام، ضرب الفساد والفاسدين ممن ينهبون خيرات الوطن... وكل ذلك يرتكز إلى ضرورة إلغاء قانون الطوارئ وكل تطبيقاته التي تشل الحياة العامة في سوريا، وتجعل الاعتراض أو المعارضة مماثلة للخيانة!
إن المطلوب إصلاح النظام، وليس تجميله. ومدخل الإصلاح الديموقراطية، ولم يعد مقبولاً ولا مجدياً ترقيع النظام المتآكل بمجموعة إجراءات تزيينية... خصوصاً أن الشعب السوري قد سمع من رئيسه، مباشرة، أن مشكلته الكبرى تكمن في التعارض بين ما يريد تحقيقه وبين قدرة نظامه على تطوير ذاته، والتي غالباً ما تموّه بالقول إن أي تطوير سوف يسقط النظام.. أو أن النظام لا يتحمل حرية الاعتراض بالتظاهر أو بالقول. وكأن هذا الشعب السوري العظيم الذي تحمّل الحصار لآماد طويلة، والتآمر لإفقاره وإخضاعه، لا سيما بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وبعد اضطهاده الذي يفوق التصور في لبنان، وعبر الاتهام الظالم المسبق والذي سرعان ما رفع في ما بعد ليوجّه إلى «حزب الله» بمسؤولية ما عن اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري... كأن هذا الشعب أقل من أن يستحق الديموقراطية، وأدنى وعياً من أن يتحمل المسؤوليات التي طالما تحملها عبر ثوراته ضد الاستعمار وانتفاضاته ضد حكام الانقلابات العسكرية كما ضد الذين حاولوا التفريط بالمسؤولية القومية عن قضية فلسطين وحقوق شعبها.
وإنها لمفارقة مفجعة أن تصير فضائيات النفط العربي التي «صالحت» أعداء الأمة من زمن بعيد، هي الصوت المعبّر عن ضمير الشعوب وعن طموحاتها إلى التغيير... وكأن الحكام الذين أنشأوا هذه الفضائيات، بالطلب، هم النموذج الفذ للديموقراطية وحكم الشعب بالشعب..
كذلك فهي مفارقة مفجعة أن يصبح الإعلام المتخلّف أداة إدانة للنظام حتى عندما لا تكون جريمة ولا مذابح ولا قتلى بالعشرات ولا شعارات طائفية، أمثال تلك التي تروّج لها، على مدار الساعة، الفضائيات التي تدّعي لنفسها الآن موقع القيادة في حركة الثورة العربية المعاصرة!
إن مشكلة النظام في سوريا «داخلية»، وحلها هو الإصلاح الجدي والشامل والذي يعيد الاعتبار إلى دور الشعب وحقوقه في دولته التي بناها ويبنيها بجهده وعرقه وعلمه وكفاءاته التي هجرت «الوطن» إلى حيث تجد من يقدّرها ويستفيد منها.
وعسى السوريون يسمعون ما يطمئنهم خلال هذا الأسبوع، من أسباب الإصلاح الذي طال انتظارهم له..
ذلك سيكون مصدر اطمئنان ليس لهم فقط بل وللبنانيين أيضاً الذين يذهب الاضطراب في سوريا بأسباب استقرارهم الهش.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك