وحدهم قليلو الإيمان ما زالوا يعتقدون بأنّ التأخير في الحكومة هو مجرّد مسألة داخلية. ليس جبران باسيل وزياد بارود في حجم يهزّ أركان الاستراتيجيات الشرق أوسطية، ولا طبعا، فيصل كرامي وعبد الرحيم مراد. المسألة محسومة: خارجيّة.
الرئيس بشّار الأسد لم يقل كلمته بعد: هل من المناسب استعجال تأليف حكومة في لبنان أم لا؟ ولو فعل ذلك لكانت الحكومة رأت النور منذ زمن.
في المرحلة الصعبة
في دائرة المحيطين بالرئيس السوري اتجاهان في الرأي‘ وفقا للمعلومات التي تتقاطع لدى مصادر سياسية عدة في لبنان: الأول يرى ضرورة استعجال تأليف الحكومة لأسباب سوريّة داخلية. والثاني ينطلق من المبرّرات عينها للقول بأفضلية استمرار "الستاتيكو" في الوقت الحاضر.
ثمّة من يعتقد في سوريا، أنّ هناك مرحلة صعبة على الأبواب، في الداخل السوري خصوصا، ولا مجال لإضاعة الوقت. والتطوّرات يمكن أن تخلق واقعا يحتاج خلاله السوريّون الى الانكباب على أوضاعهم الخاصة، بحيث تتضاءل قدرتهم ورغبتهم في الاضطلاع بأدوار إقليمية. وهذا يحتّم إرساء معادلة لبنانية مريحة لهم، والحكومة العتيدة هي الركيزة الأساسية في هذا المجال.
هؤلاء يرون أنّ حلفاء سوريا الحقيقيين لا يملكون غالبية في المجلس النيابي. كما أنّ رئيس الجمهورية ينتمي إلى الخط الوسطي المؤمن بالعلاقة مع دمشق، لكنه لا يشكّل متراسا لسوريا كما هم حلفاؤها في 8 آذار. ولذلك، يجد أصحاب هذا الرأي أنّ من الضروري الإفادة من فرصة تأليف حكومة لبنانية لإيجاد ركيزة حليفة داخل السلطة، يمكن الركون إليها عند الحاجة. وفي ذلك تكون سوريا قطفت الثمار من سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري.
الحكومة اللبنانية بديل...
السيناريوهات لدى بعض الأوساط تؤشر إلى احتمال الوصول إلى ظروف يمكن أن تكون فيها سوريا مضطرّة الى خوض مواجهة مع قوى دولية، على خلفية التطورات في الداخل. عندئذ، من المناسب أن تكون هناك حكومة يمكن الاعتماد عليها في لبنان. هذه الحكومة - وفق توصيف هؤلاء- قد تكون حكومة بديلة للحكومة السورية في مواجهة القوى الخارجية. وستكلّفها دمشق بالتحرك ربّما لدى الأمم المتحدة والجامعة العربية. وهي قد تواجه عن سوريا استحقاق المحكمة الدولية، ومستتبعات القرار 1701 وترسيم الحدود اللبنانية - السورية وسوى ذلك.
هذا يعني ضرورة استعجال ولادة حكومة في لبنان تكون ضمانا إزاء أيّ مفاجآت. وتعني خصوصا أنها يجب أن تكون "آمنة". وفي الترجمة الحرفية يجب أن تكون حكومة "8 آذار". ومن هنا رغبة بعض الحلفاء لسوريا في ولادة حكومة اللون الواحد، ولو مموّهة، منعا للاستفزاز. ويأتي موقف "حزب الله" في سياق هذه النظرة. ويضغط الإيرانيون في الاتجاه عينه.
...أم ورقة ضغط؟
لكن أصحاب الرأي الآخر في دمشق يعتقدون بأنّ من المفيد ترك الساحة اللبنانية تتفاعل. فالأزمة الحكومية تعطي انطباعا بأن سوريا لا تتدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية. كما يرى هؤلاء أنّ وضعية الفراغ الحكوميّ يمكن أن تكون ورقة ضغط في يد دمشق تستخدمها في التجاذب مع الأميركيين والأوروبيين، الذين ربما يلجؤون إليها أخيرا طلبا للمساعدة في لبنان وملفّات أخرى. وعندئذ يكون هناك ثمن للمساعدة، يتجلى بدعم استقرار النظام أو في أيّ كسب آخر. والسوريون ماهرون جدّا في هذا النوع من المقايضات، إذا ما جرى التمعّن في سلوكهم السياسي على مدى عقود في لبنان والعراق وسواهما.
ويصبّ الرأي "المتمهل" عمليّا في خانة إعطاء الفرص للرئيس نجيب ميقاتي. كما يريح الجانب السعودي، تماما كما أراحه إعلان دمشق موقفها المدوّي الداعم دخول القوات الخليجية إلى البحرين. وهو يساعد سوريا على استثمار حسن علاقاتها مع المملكة في تدعيم وضعها الداخلي مع الشرائح السنّية.
بميزان الذهب
الرئيس الأسد لم يحسم أيّا من الخيارين حتى اليوم. إنه حريص أيضا على عدم الإخلال بالتعهدات: لن نتدخل في الشأن اللبناني على غرار ما فعلنا في السابق. وهذا الخطأ لن يتكرر. وهناك من يدفع الأسد الى التدخل مجدّدا - يقولها أحد حلفاء سوريا- لكنه لن ينزلق إلى هذا الفخ. ويدرس الأسد خياراته في دقة، ويزن خطواته في هذه الأيام بميزان الذهب.
لكن للضرورة أحكاما. وقد لا تتدخل دمشق بعد اليوم في الشأن اللبناني كما كانت تتدخل. إلّا أنّ "مَوْنتها" على حلفائها اللبنانيين لا يمكن إهمالها في الحسابات.
وينتظر الوسط السياسي الداخلي "كلمة السرّ" التي سيقولها الرئيس الأسد، ولو تأخرت. ويتبلغها المعنيون جميعا، وفي مقدّمهم "طباخو الحكومة". ولن يكون هناك في حال التأليف سوى خيار حكومة من لون واحد، لأنّ الهيكلية السياسية التي سيرتكز إليها البناء الحكومي المرتقب، هي لفريق "8 آذار"، ولن يكون التكنوقراط سوى جزء من "ديكور المسرح".
"الحزب" متحمّس للإنجاز
في لبنان متحمّسون كثر لموقف سوري قوي يستعجل التأليف. و"حزب الله" في الطليعة. ويدعم الإيرانيون هذا الاتّجاه.
يرغب "الحزب" في تحقيق إنجاز لئلّا تكون صورته لدى الرأي العام مقتصرة على الإنجازات غير المكتملة. فهو يرفع راية الانتصار على إسرائيل في العام 2006، لكنه لم يستطع رفض القرار 1701 وانتشار "اليونيفيل" ودخول الجيش إلى الجنوب. وهو أسقط حكومة الرئيس الحريري، لكنه لم يستطع حتى الآن إقامة "حكومته". وهو بإسقاطها أراد تعطيل القرار الاتهامي والمحكمة الدولية، لكنهما لم يتعطلا. وقد وجّه الى الرئيس المكلف إنذارا تِلو الآخر لتأليف الحكومة، ولكن لا نتيجة حتى الساعة.
ويمارس "الحزب"جهودا، مستعينا بالحليف الإيراني، لدفع سوريا الى الحسم في لبنان. لكن دون ذلك ضوابط العلاقات التي تشهد انفراجا مع السعودية.
مؤشّران و"داتا"
وتتحدّث بعض الأوساط عن مؤشرات سورية لافتة أخيرا، وأبرزها:
1 - الاتهام "المتلفز" الذي وجّهه السوريّون الى "تيار المستقبل" بالضلوع في أحداث سوريا الداخلية. وهو يحمل مغزى في مجرد توجيهه، لا في مضمونه. عِلما بأنّ وزير الدفاع ورئيس الأركان السوريّين كانا جزما في وقت سابق بعدم صحة الأخبار التي ظهرت في وسائل إعلام لبنانية، عن أسلحة دخلت إلى سوريا بحرا خلال مواجهات اللاذقية.
2 - الإعلان بلسان السفير السوري في الرياض مهدي دخل الله، لصحيفة "عكاظ"، عن زيارة يقوم بها الرئيس الأسد للسعودية، أول من أمس، لعقد قمة مع الملك عبد الله بن عبد العزيز. ثم المسارعة عبر وكالة "سانا" الرسمية إلى الإعلان عمّا يخالف ذلك.
المتابعون يترقبون في أي اتجاه ستتحرك البوصلة السوريّة في زمن المتغيرات الكبرى في الشرق الأوسط. وأبرز المترقبين الرئيس ميقاتي الحامل "جبلا من الصبر"، بحسب تعبير الرئيس نبيه برّي. ويتولّى شقيقه طه تزويده "الداتا" التي يحتاجها، من دمشق كما واشنطن وسائر "عواصم القرار" اللبناني. والمهم في أحوال كهذه أن يجري "تحديث"سريع ومتواصل
لـ "الداتا". فليس أسوأ من القيادة في رؤية سيّئة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك