قبلَ ظهر الإثنين الماضي، وتزامناً مع مجازر النظام السوريّ في حماة، سمح مفتي الجمهوريّة محمد رشيد قباّني لنفسه بإستقبال سفير سوريّا في بيروت الذي إستخدم منبر دار الفتوى - وفي شهر رمضان المبارك - ليطلق مواقف تكرّر "نظريّات" نظام الأسد ضدّ الشعب السوريّ المدافع عن كرامته وحريّته. وهو السفير الذي يدير من مقرّه الأعمال الميليشياويّة في وجه أيّ صرخة تضامن مع الجرح السوريّ. ألم يكن المفتي قادراً على إلغاء هذا الموعد؟ ألم يكن في وسعه الإمتناع عن إعطاء هذه التغطية؟ بمَ كان سماحته محشوراً؟!.
وصباح الأربعاء الفائت، إنعقد الإجتماع الشهريّ لمجلس المطارنة الموارننة الذي أصدر بياناً خلا من أيّ موقف حيال ما يحصل في سوريا من إغراق للبلاد والشعب في الدماء. وكانَ إجتماعُ المطارنة هذا مسبوقاً في الأسابيع والشهور الماضية بمواقف للبطريرك بشارة الراعي تُعادي الثورات العربيّة عموماً بما فيها الثورة السوريّة، ويقدّم قراءةً "مؤسفة" للتطوّرات إذ تضعها في سياق مشروع تقسيميّ تفتيتيّ للمنطقة العربيّة بدلاً من أن ترى فيها إستنهاضاً للوضع العربيّ بالحريّة وبالديموقراطيّة!.
هذا في ما يتّصل بمرجعيتين روحيتين، إحداهما إسلاميّة - سنيّة والثانية مسيحيّة - مارونيّة. أمّا المرجعيّة الروحيّة الإسلاميّة - الشيعيّة، فقد "سبق فضلُها" إذ إلتحقت إلتحاقاً كاملاً بالشيعيّة السياسيّة و"منحت" الطائفة مسبقاً للنظام السوريّ، تباعاً منذ عقود!.
إنّ هذا الوضع الموصّف أعلاه مُخز من الناحية الإنسانيّة والأخلاقيّة أولاً، إذ يضربُ صانعو هذا الوضع عرض الحائط بآلاف الشهداء والجرحى وبعشرات آلاف المفقودين والمعتقلين في سوريّا، ويتعاطون مع تطوّرات الأزمة السوريّة بـ"برود" و"برادة" عجيبين، بل يتعاطون بما يحق للشعب السوريّ أن يعتبره تملقاً للنظام وإستهتاراً بالتضحيات المبذولة للتخلص منه.
نعم، إنّ الناحيّة الإنسانيّة والأخلاقيّة بالغة الأهميّة، ولذلك كانت البدايةُ منها.
أمّا دلالات هذه المعطيات في السياسة، فإنها ليست أقلّ خطورة. ذلك أنّ تلك المواقف تعكس قصوراً عن إستيعاب معاني ما يجري في سوريّا والمنطقة العربيّة من جهة وتعكسُ تخوّفات غير مبرّرة من نتائجها على لبنان والمنطقة من جهة ثانية.
إنّ ما يجري في سوريّا والمنطقة تحوّل تاريخي نحو الديموقراطيّة. وهوَ تحوّلٌ تاريخي نحو إقامة الدول المدنيّة.. ولو بمخاضات طويلة. وهو فرصةٌ لصياغة العلاقات داخل كلّ دولة بينَ أبنائها وطوائفها. وما يجري لا يمكن أن يؤدّي إلى نشوء غلبة طائفيّة (سنّية) وإلى جعل الطوائف الأخرى "أهل ذمّة". وهو فرصةٌ لصياغة العلاقات العربيّة - العربيّة على أساس جديد بين دول متكافئة ومتعاونة. وهو فرصة ذهبيّة للبنان كي يطويَ نهائياً مراحل من التعاطي معه بوصفه "الشقيق الأصغر" الذي يحّمل ما لا يحتمله، وليطويَ بالتالي صفحة من الأزمات المتعاقبة موجاتها منذ خمسينات القرن الماضي.
إنّ ما يجري منعطف تاريخيّ لا بدّ أن يتمّ التعامل معه لبنانياً بوعي تاريخيّ. فاللبنانيون معنيّون مباشرةً، بل أكثر من غيرهم من العرب، بالمساهمة في هذا التاريخ الجديد. والمرجعيات الروحيّة، بما أنّها موضوع البحث، مطالبةٌ بأن تعي "أنّها دجاجة وليست حبة قمح". والأهمّ أن تعي أنّ سوريّا خاصة، تغيّرت منذ 15 آذار الماضي، وأن لا عودة لسوريّا إلى ما قبل هذا التاريخ المجيد.
من منطلق هذه الخلّفيات جميعاً، لا مفرّ من القول لمفتي الجمهوريّة إنّ زمن ما قبل 14 آذار 2005 ولّى، ومعه زمن "المندوب السوريّ السامي"، وإنّ التصرّف على أساس أنّ الأمور كأنّها لا تزال على حالها، مؤذٍ جداً للشعب السوريّ ودمائه في حماة وحمص ودرعا ودمشق.. وللبنانيين المتطلّعين إلى قيامة مرحلة لبنانيّة - عربيّة جديدة، وإنّ خطأ من نوع إستقبال سفير النظام السوريّ خاصة في هذا التوقيت، لا يُحتمل.
وللبطريرك الماروني لا مفرّ من القول إنّ المقاربة التي يُفصح عنها منذ بضعة شهور، تمثّل تراجعاً عن مواقف أساسيّة للكنيسة التي قالت في مقرّرات مجمعها 2006 أن لا مسألة مسيحيّة خاصة في لبنان وأن أيّ مشكلة يكون حلّها في الإطار الوطنيّ - اللبنانيّ - العام، وتبنّت بشجاعة عنوان الدولة المدنية للبنان ولدول المنطقة.. ورفضت بمواقفها ونصوصها أن يعامل المسيحيّون أنفسهم على أنّهم أقليّة ورفضت تزامناً كلّ الثنائيّات والثلاثيّات الطائفيّة. وشدّدت على الدور المسيحيّ في الشرق، وهو دورهم التاريخيّ أصلاً. كذلك فإنّ مقاربة البطريرك تبتعد مع الأسف عن معركة تثبيت إستقلال لبنان وحرّيته وديموقراطيّته وصيغته، في اللحظة التي يبدو فيها إمكان التكامل بين العامل اللبناني الذاتي والعامل العربيّ الموازي.
أمّا للمرجعيّة الروحيّة الشيعيّة، فإنّ القول مكرّر: إنّ التماهي مع الشيعيّة السياسيّة الموالية للنظامين السوري والإيراني يزيد من الأخطار المستقبليّة على الشيعة، لأنّ ربطهم بهذين النظامين يضع الشيعة في مواجهة اللبنانيين الآخرين من سائر الطوائف، وهو يضع الآن الشيعة ضدّ الشعب السوريّ الذي يرى أمامه كتائب شيعيّة - حزب اللهيّة تقاتله، ويضع الشيعة خارج التاريخ الجديد للمنطقة.
إنّ المقدّمات الآنفة التي تخاطبُ المرجعيّات الروحيّة لافتةً إلى قصورها عن مواكبة التطوّرات، إنّما تؤشّر إلى نوع من "التلاشي" الذي نشهده على مستويات عدّة في لبنان. تلاشي الدولة المحكومة الآن بسلطة تابعة للنظام السوريّ وتنفذ له رغباته وصولاً إلى وصمة العار المتمثلة بموقف لبنان في مجلس الأمن الدوليّ ضدّ الشعب السوريّ، وتلاشي مؤسّسات هذه الدولة، الأمنيّة خاصة التي لم تعد تمثل ضمانة للبنانيين - كلّهم - وحماية لهم، وتلاشي نظام القيم من جوانبها كافّة.. وتلاشي موقع لبنان ودوره بطبيعة الحال.
وسطَ هذه الصورة المؤلمة فعلاً، ثمّة أمل من ناحيتين. الأولى هي إستيقاظُ "الإجتماع السياسي" على فداحة البطء في التفاعل مع "الربيع العربي" ممّا ينبئ بخارطة سياسيّة جديدة. والثانية هي الوعي الكبير في المجتمع المدنيّ للتحوّل التاريخيّ العربيّ والذي لن يؤثّر فيه قمع "الشبيحة" في شارع الحمراء ولا تقصير المؤسّسات الأمنيّة في حماية الحريّات.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك