كتب المحامي والاستاذ الجامعي ادغار قبوات لموقع mtv:
الفدرالية لا تعني التقسيم. إن الجمهورية الثالثة التي نصبو إليها هي جمهورية دولة لبنان الفدرالي، لا لبنان الكونفدرالي، لا لبنان المنفصل، وبطبيعة الحال، لا لبنان المركزي المستمد من النظام الفرنسي"الجاكوبيني". وتبرز هنا اهمية التمييز بين المصطلحات الدستورية لرفع اللبس عنها بشكل نهائي.
تأسيسا على ذلك، إن الدولة المركزية هي الدولة التي تجعل من العاصمة مركز القرارين السياسي والاداري، ويخضع فيها المواطنون للسلطة المركزية الواحدة، فتتألف الدولة من مجلس نيابي واحد، ومجلس وزراء واحد وسلطة قضائية واحدة، كما هو الحال في لبنان وفرنسا وبولونيا وتايلاندا... إلا انه، ولأسباب عملية، قد ترتئي الدولة المركزية إنشاء سلطات او هيئات محليّة بالمناطق، لتولّي إدارة شؤون المناطق الإنمائية والإدارية، رغبة منها من تحقيق تقارب معيّن بين المواطنين من جهة، والسلطة المركزية من جهة اخرى، وهذا ما يعرف باللامركزية الإدارية او باللاحصرية، إلا انه وحتى في هذه الحالة، تحتفظ السلطات الحكومية بالقرار.
إن هذين المصطلحين يختلفين في المضمون، وحتى ولو انهما مرتبطين عضويا وحصريا بالدولة المركزية من دون سواها. إن اللاحصرية تكمن في نقل جزء من الصلاحيات الإدارية، من الدولة المركزية إلى السلطات العامة المعيّنة من قبل هذه السلطة المركزية، كالمحافظات كافة مثلا. إن هذه السلطات تتولّى امر تنفيذ الأوامر الصادرة عن السلطة العامة، كما تتولّى امر تنفيذ سياستها تحت إشرافها المباشر، فهي تشكل جزء لا يتجزأ من الهرمية الإدارية المكوّنة للدولة اللبنانية.
أما اللامركزية الإدارية، فتكمن في نقل جزء من الصلاحيات الإدارية من السلطة المركزية إلى سلطة محليّة منتخبة من قبل المواطنين ضمن دوائر محددة قانونا، وليس معيّنة من السلطة المركزية. إن هذه السلطات مولجة عادة بإدارة المصلحة العامة في المناطق التي انتخبتها. إن الصلاحيات كافة التي تعطى لهذه السلطات يحددها المشترع وليس الدستور، ويمكن بالتالي تعديلها بموجب قانون يتمّ إقراره من قبل السلطة التشريعية. إن ممارسة الساطات المحلية المنتخبة لصلاحيّتها يكون خاضعا لرقابة مشددة من قبل السلطة المركزية، خلافا لما هو الحال بالنسبة للرقابة المفروضة على السلطات العامة المعيّنة من قبل هذه السلطة المركزية التي تكتفي بتنفيذ اوامرها. إن هدف اللامركزية الإدارية ينحصر بإشراك المواطنين بصورة ضيّقة في إتخاذ القرارات التي تعنيهم مباشرة. اما مصطلح "لامركزية إدارية موسّعة"، فلا وجود له في قاموس القانون الدستوري المقارن، وهو استخدم في لبنان من قبل بعض المجموعات، للدلالة على النظام الفدرالي، املا منها من التخفيف عن وطأة التغييرات التي يمكن ان تسبّبها الفدرالية على المنتظم السياسي والمؤسساتي في لبنان.
ونعني بذلك انه، حتّى عندما تنحو الدولة المركزيّة صوب اللامركزيّة الاداريّة، يبقى أن صلاحيّات هيئاتها المحليّة (كالبلديّات مثلا، أو المحافظين)، تقرّر عبر قوانين، ويمكن تغييرها بقوانين أيضاً. هنا تختلف اللامركزيّة الادارايّة بالعمق، عن اللامركزيّة السياسيّة أو الفدراليّة، حيث صلاحيّات الولايات الفدراليّة يضعها الدستور، ولا يمكن تعديلها، الّا بتغيير الدستور، وهي مسألة أصعب بكثير من مجرّد التصويت على قانون جديد، أو الغاء قانون قائم، أوتعديله. ثمّ أن استقلاليّة السلطات المحليّة تجاه العاصمة في النظام اللامركزي الاداري، أقلّ بكثير من استقلاليّة مكوّنات الاتّحاد الفدرالي، أي الولايات الفدراليّة، تجاه السلطات المركزيّة. اما حق التشريع للوحدات الجغرافية فهو مباح في اللامركزية السياسية، ومحظور في ظل الدولة المركزية، حتى ولو تحلّت بأوسع قدر ممكن من اللامركزية الإدارية، وهذا الأمر بالغ الأهمية للوصول للإرتقاء المنشود.
أما الشكل الآخر من الدول المركّبة، والتي تخلق إلتباس في ذهن جزء لا يستهان به من اللبنانيين، فهو الكونفدرالية. فالإتحاد الكونفدرالي مكوّن من مجموعة دول مستقلة عن بعضها البعض، وتحتفظ كل دولة من هذه الدول بكامل سيادتها الوطنية ، إلا انها مرتبطة مع بعضها البعض بموجب معاهدة، يتم الإتفاق بموجبها بين الدول المتعاقدة على ممارسة مجموعة صلاحيات في ميادين ومجالات معينة، بغية توحيد سياساتها في هذه المجالات. إن هذه الصلاحيات يتم ممارستها بواسطة هيئات مشتركة. إن الفرق بين الفيديرالية والكونفيديرالية هو كالفرق بين الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية. إن الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي كفرنسا وإلمانيا مثلا، لم تتنازل عن سيادتها عند دخولها الإتحاد، بل مازالت محتفظة بسيادتها وسياساتها الخارجية والدفاعية برمتها. بالمقابل، إن مكونات الولايات المتحدة الأميركية، كولاية كاليفورنيا مثلا، فقدت سيادتها الدفاعية والخارجية، ولا سيادة خاصة لها.
من جهة اخرى، وخلافا لما هو الحال في تأسيس الدولة الفدرالية الذي يتم بموجب دستور فدرالي، فإن تأسيس الإتحاد الكونفدرالي يتم بصورة تعاقدية بواسطة معاهدة تأسيسية، واي تعديل في الصلاحيات يفرض تعديل المعاهدة التأسيسية. تتولّى دول الإتحاد الكونفدرالي تعيين مندوبين للإجتماع في مجمّع كونفدرالي، حيث يتم إتخاذ القرارات التي سوف تصوّت عليها كل الدول بالإجماع، والتي لا يمكن ان يتم تنفيذها على اراضي دولة معيّنة إلا بعد موافقتها على ذلك. إن المندوبين المذكورين، ملزمون بالتصويت في المجمع وفقا لتعليمات الدول التي يمثلونها. إذا، إن الفدرالية هي دولة واحدة مكوّنة من عدة وحدات ضمن هذه الدولة، بينما الإتحاد الكونفدرالي هو مجموعة دول سيدة ومستقلة مرتبطة ببعضها البعض بواسطة معاهدة دولية. وبما ان الكوتفدرالية هي مجموعة دول سيدة، فيمكن بالتالي لأية دولة ان تنسحب من الإتحاد الكونفدرالي بقرار سيادي، كما فعلت بريطانيا بالبريكزيت، اي بخروجها من الإتحاد الأوروبي عام 2020. بالمقابل، لا يمكن للولايات الفدرالية الإنسحاب من الإتحاد الفدرالي لأن الولايات ليست دول سيدة كما سبق ذكره سابقا.
اخيرا، الإنفصال، وهو مطالبة مجموعات ثقافية بالإستقلال عن دولة قائمة من اجل تشكيل كيان خاص فيها. غالبا ما يكون الإنفصال هاجس الأقليات بسبب العلاقة المتوترة بينها وبين الأكثرية المحيطة فيها. إن سبب الرغبة بالإنفصال يعود عادة إلى عدم إحترام النخب الحاكمة لثقافة الأقلية. إن الإنفصال يختلف عن النموذجيين السالف ذكرهما، اي النظام الفدرالي والكونفدرالي، وبطبيعة الحال، مختلف عن النظام المركزي. إن الإنفصال هو كناية عن إنشقاق تام عن الدولة الأم لينشأ كيان جديد. فهو يذهب إلى ابعد من الكونفدرالية، كون الدولة الجديدية المستقلة غير مرتبطة بمعاهدة تحالف من اي نوع كان. وهنا لا بد من الإشارة إلى انه ليس الإنفصال نتيجة حتمية للتعددية المجتمعية، والنموذج الكندي خير دليل على ذلك. عام 1995، طالب قوميون بالكيبيك بالإنفصال عن كندا، وبتأسيس دولة مستقلة. فنظّم إستفتاء شعبيا آنذاك، وصوّتت الغالبية في الكيبيك ضد الإنفصال، اي مع البقاء بكندا الفدرالية، التي تعطي الكيبيك صلاحيات ذاتية واسعة. يستفاد من ذلك ان النظام الفدرالي في كندا حافظ على تعدديتها وعلى وحدتها وجنّبها إنفصال الكيبيك.
ثمة امثلة اخرى تستحق الدراسة: محاولة الأكراد الإنفصال عن العراق عام 2017، ومحاولة ولاية كاتالونيا الإنفصال عن إسبتنيا عام 2017 ايضا. يمكن النظر ايضا إلى التجربة الهندية- الباكستانية. عندما ارادت الهند ان تأخذ إستقلالها من بريطانيا، طالبت النخب المسلمة في الهند آنذاك، ان يكون نظام الحكم فدراليا، وكان على رأس هؤلاء المطالبون، محمد علي جناح. لم تكن تخطر ببالهم فكرة الإنفصال التام عن الهند وتأسيس دولة باكستان. إلا ان رئيس وزراء الهند في ذلك الوقت كان نهرو، العلماني، والذي كان يعتبر ان الهويّات متحرّكة، فرفض الطرح الفدرالي، مصرّا على الطرح المركزي، مما ادّى إلى تصعيد ادّى إلى الإنفصال. فإنفصلت الهند وتم تأسيس دولة باكستان على اثر ذلك. يستفاد إذا من ذلك، انه عندما يقترن الطرح الفدرالي بالقبول، فهو يؤدّي الى المحافظة على الدولة الموحّدة، اما عندما يقترن هذا الطرح بالرفض، فهو يسبب التصعيد، ومن ثم الإنفصال. فالفدرالية هي ضمانة لوحدة الدولة وليس العكس. كذلك الأمر، عندما طالب سكان الكيبيك الفرنكوفون في كندا الفدرالية عام 1995 بتنظيم إستفتاء شعبيا للحصول على الإنفصال التام عن الدولة. صوّت الناخبون بأكثريتهم المطلقة برفض الإنفصال والمحافظة على بقائهم من ضمن الفدرالية اي الدولة الموحّدة. فهذا مؤشّر بأنه لو كانت الدولة في كندا مركزية، وحصل الإستفتاء، لكانت نتيجة التصويت مالت نحو الإنفصال من دون اي شك. إلا ان إرتياح الناس في النظام الفدرالي الذي يوائم بين الوحدة من جهة والإعتراف بالتعددية من جهة اخرى، جنّب على كندا إنفصال الكيبيك الفرانكوفون من الدولة الفدرالية.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك