فيما المؤتمرات الوطنية لكلا الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة تطغى على اهتمامات الإعلام الأميركي، بدأ العالم العربي يستطلع المضاعفات المحتمَلة للخيار الذي ستقع عليه قرعة الناخبين الأميركيين في غضون شهرين.
قبل أربع سنوات من الآن، شعر العديد في العالم العربي بتأثر عميق جراء نجاح باراك حسين أوباما، ذلك الأميركي الأفريقي الشاب ذي الجذور العائلية الإسلامية، في الانتخابات، فقد سحرت حملتُه الداعية إلى الأمل تحت شعار «نعم نستطيع»، الخيال العربي.
هذه الروح تشبه، في الحصيلة، روحَ الأمل والتمكين نفسها التي ألهبت حماسة الشباب والمواطنين العرب ودفعتهم إلى تفجير انتفاضات الربيع العربي. فضلاً عن ذلك، كان كل العرب تقريباً - من المحافظين إلى الليبراليين، ومن المتدينين إلى العلمانيين - متشوّقين لمغادرة جورج بوش البيت الأبيض.
لكن الوضع يبدو مختلفاً اليوم، فالمنطقة غارقة حتى أذنيها في لُجَج الأزمات الداخلية والإقليمية، والرأي العام فيها منقسم بين مَن هو مع ومَن هو ضد الرئيس الأميركي الحالي، كما أنه لا يعرف الكثيرَ عن منافسه الرئاسي ميت رومني وعن السياسة الخارجية التي قد ينتهج.
الانقسام عينه، حول ما إذا كانت رئاسة رومني أو الولاية الثانية لأوباما ستُدخل تغييرات دراماتيكية على السياسة الخارجية الأميركية عموماً وعلى السياسة إزاء الشرق الأوسط على وجه الخصوص، موجود حتى بين الخبراء في الولايات المتحدة، فإذا كان أوباما عُرضةً للخطر في استطلاعات الرأي، فإن هذا يُعزى إلى تباطؤ الاقتصاد ومعدلات البطالة المرتفعة، وليس إلى النجاحات أو الفشل في السياسة الخارجية.
الناخبون الأميركيون يعطون أوباما علامات عالية في السياسة الخارجية: إذ هو استعاد مواقع أميركا وعلاقاتها في العالم بعد عزلتها إبّان سنوات بوش، وسَحَبَ القوات الأميركية من العراق، وحدَّد العام 2014 كموعد للانسحاب من أفغانستان، وأعطى الأمر بتصفية أسامة بن لادن، وصعّد حرب الطائرات من دون طيار («درون») ضد القاعدة... ثم إنه لم يقع أي هجوم إرهابي في عهده على الولايات المتحدة.
وكانت حملة رومني قد هنأت أوباما على نجاحه في استهداف بن لادن، لكنها انتقدت سياسته الودودة تجاه روسيا والصين، وليونته مع إيران، وتشدده مع إسرائيل، ومخاطرته بدفع القوة الأميركية إلى حالة انحدارية.
إذا فاز أوباما بولاية ثانية، فلا يُحتمل أن تتغيَّر سياسته الشرق أوسطية كثيراً، فنمط الوجود الأميركي المتقلِّص، الذي تجسَّد في الانسحاب من العراق خلال الولاية الأولى، سيُستكمل بسحب القوات من أفغانستان في ولايته الثانية المحتمَلة، وإن مع استمرار غارات الـ «درون» التي تستهدف المجموعات المُشتبه بانتمائها إلى تنظيم القاعدة في المنطقة. وفي أفريقيا الشمالية، سيعمل أوباما مع الحكومات الجديدة في مرحلة ما بعد الثورة، وسيواصل بناء الجسور مع أحزاب الإخوان المسلمين المُهيمنة ويشجِّعها على التحرُّك نحو البراغماتية والاعتدال.
بيد أن الأحداث في سورية وإيران قد تجبره على تغيير دفّة توجهاته، ففي سورية، دعا أوباما إلى رحيل الأسد، لكنه قاوم الضغوط التي طالبته بتسليح المعارضة أو فرض منطقة حظر جوي. ويحتمل أن تسير التطورات في سورية على غرار ما جرى في ليبيا العام 2011، فيُجبَر أوباما على تبني مثل هذه الخيارات. وفي إيران، وبعد فشل محاولاته الانفتاحية على طهران، عمد أوباما إلى تشكيل تحالف دولي لفرض عقوبات أشد عليها. لكن لا المحادثات ولا العقوبات غيَّرت مقاربة إيران لبرنامجها النووي، وبالتالي قد يُجبِر هجوم إسرائيلي على إيران، أو تطورات مفاجئة في الملف النووي الإيراني أوباما على النظر في الخيار العسكري أثناء ولايته الثانية.
أما بالنسبة إلى مجلس التعاون الخليجي، فسيُحافظ أوباما على التزام الولايات المتحدة بأمن هذه الدول والتدفّق المستمر للنفط والغاز، كما سيواصل حثّ دول المنطقة على تطبيق إصلاحات جزئية، تجنّباً للمصير الذي لقيَتْه الأنظمة الاستبدادية العربية الأخرى. ومع أنه لم يحقّق نجاحاً يُذكر في عملية السلام، لا تزال هذه القضية عزيزة على قلبه، ويُحتمَل أن يبذل مسعى آخر في ولايته الثانية لتحقيق تقدُّم في المحادثات الإسرائيلية-الفلسطينية والإسرائيلية-العربية.
في المقابل، صحيح أن رومني يبدو براغماتياً، إلا أنه في حال فوزه، قد تُدخل إدارته مجدداً العديدَ من المحافظين الجدد إلى فريق السياسة الخارجية، فالحزب الجمهوري لم يَعُد يضمّ معتدلين نافذين، أمثال جيمس بايكر وجورج بوش الأب وجورج شولتز، بل أصبح جناحُه الأيديولوجي الأيمن المسيطرَ فيه. وقد شدّدت حملة رومني الانتخابية على أن الولايات المتحدة يجب أن تبقى القوة المهيمنة في العالم، وأن تعيد بناء تفوّقها العسكري، وان تستخدمَ هذه القوة لتحديد الأجندة العالمية وصون النظام الدولي. لكن في مقابل هذا الطموح، سيجد رومني نفسه، في حال وصل البيت الأبيض، في مواجهة معضلات صعبة، متمثّلة بصعوبة الحفاظ على جيش ضخم فيما هو يواجه عجوزات مالية قاسية وانحداراً اقتصادياً، كما أنه سيحاول فرض إملاءات أميركية على عالم متعدّد الأقطاب بدأت القوة الأميركية والغربية فيه تتلاشى.
أما تجاه الشرق الأوسط، فسيكون في سياسة ادارة رومني شيء من الاستمرارية وشيء من التغيير، فرومني ملتزم هو أيضاً بالانسحاب من أفغانستان، وإن كان هذا الانسحاب يُحتمَل أن يجري وفقاً لجدول زمني أبطأ، كما أن حروب الـ «درون» التي ورثها أوباما من بوش، ستتواصل في عهد رومني. وقد تعهّد رومني أيضاً بمساعدة الدول التي أطاحت الأنظمة الدكتاتورية على تدعيم عملية انتقالها إلى الديموقراطية، لكنه يبدو - على خلاف أوباما - أكثر حذراً بكثير إزاء الأحزاب التابعة للإخوان المسلمين، وقد يضع الولايات المتحدة في مسار تصادمي مع الحكومات الإسلامية المُنتَخَبة حديثاً في المنطقة.
في مقابل ذلك، ستكون إدارة رومني أكثر عدائيةً من أوباما في ما يتعلّق بسورية وإيران، فعلى الرغم من أن رومني رفض حتى الآن دعمَ إقامة منطقة حظر جوي في سوريا، لكنه مالَ نحو خيار تسليح المعارضة. ومع أنه لم يدعُ حتى الآن إلى شن هجوم على إيران، إلا أنه يبدو أكثر استعداداً من أوباما للتعاطف مع ضربة إسرائيلية أو تحرّك إسرائيلي في اتّجاه شنّ عملية عسكرية. أما في ما يخصّ عملية السلام، فكرّر رومني موقف جورج بوش، القائل بأن العملية ليست أولوية أميركية، بل ما يهمّ هو تعزيز الولايات المتحدة أمنَ إسرائيل وتفوّقَها العسكري في المنطقة.
بدا جورج دبليو بوش عند وصوله إلى سدة الرئاسة في العام 2000، براغماتياً معتدلاً يحمل أجندة محلية الطابع، غير أن الخطاب الذي اعتمدته إدارته عقب هجمات 11 أيلول (سبتمبر) دفع بها إلى خوض مغامرات واسعة النطاق في المنطقة. وهكذا، وعلى الرغم من براغماتية رومني، قد يؤدّي كلٌّ من الخطاب الذي يعتمده حزب رومني والمواقف غير المدروسة حيال القضايا المعقّدة في الشرق الأوسط، إلى إغراق المنطقة في مزيد من التوترات والمواجهات. لذلك، ومع أن الهيمنة الأميركية في العالم آخذة في التراجع، إلا أنه لا مفرّ من أن تؤثِّر نتيجةُ الانتخابات الأميركية على الشرق الأوسط تأثيراً كبيراً.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك