كتبت هديل فرفور في "الاخبار":
أكثر من 14 مليار دولار بلغ إجمالي البيوعات العقارية في عام 2020 فيما تشير المعطيات إلى أن نحو سبعة آلاف شقة سكنية شاغرة فقط هي ما تبقّى من أصل نحو 70 ألفاً كانت متوافرة قبل عامين.
«انتعاش» معاكس لتيار الأزمة الاقتصادية والمالية، لا بل غير مسبوق، لكنه «موقت» بحسب ما يرى الخبراء ممن يربطون انهيار القطاع العقاري بانهيار النموذج الاقتصادي الذي غيّب الاستراتيجيات الوطنية للسكن الحضري وهمّش سياسات المأوى. هؤلاء يُجمعون على أهمية أن يترافق الانهيار مع تغيير النهج القديم الذي وصم العقار بالطابع السلعي مع ما يحتمله ذلك من وضع سياسات إسكانية تحيي مفهوم الحق في السكن
«طالما هناك أموال محتجزة في المصارف، سيبقى سوق العقارات منتعشاً». خلاصة يؤكّدها رئيس نقابة المقاولين في لبنان مارون الحلو، في معرض تفسيره لاستمرار الحركة الناشطة في بيع الشقق السكنية والعقارات، رغم الأزمة الاقتصادية والنقدية التي تعصف بالبلاد منذ أكثر من سنة ونصف سنة.
وتُفيد المعطيات بأن الفترة العصيبة التي مرّت - ولا تزال - فيها البلاد لم تُبقِ على النشاط «المعتاد» لسوق العقارات فحسب، بل شكّلت «رافعة» لحالة الجمود التي شهدها القطاع منذ سنوات مع خفض القروض السكنية المدعومة بنسبة نحو 90% عام 2018، ما أدى إلى تراكم الديون على المطوّرين العقاريين بحسب رئيس نقابة الوسطاء والاستشاريين العقاريين وليد موسى، لافتاً إلى أن الأزمة النقدية كانت «أعجوبة غير متوقّعة» للمطوّرين.
وفق تقديرات المُقاولين، زاد مبيع العقارات في الأشهر العشرة الأولى من عام 2020، أي في أوج الأزمة، بنسبة 115% عن الفترة نفسها من عام 2019. ومن أصل 60 - 70 ألف وحدة سكنية شاغرة بين عامَي 2019 و2020، «لم يبقَ اليوم سوى سبعة آلاف وحدة»، وفق ما يؤكد الحلو لـ«الأخبار»، لافتاً إلى أن 80% من الشقق تمّ بيعها.
55 % من قيمة تراجع الودائع ذهبت لتسديد قروض للشركات وللمطوّرين العقاريين
وأقرّ رئيس نقابة المقاولين بأنّ «ثلاثي» المُطوّر والمُستثمر والمصرف كان «أكثر المُستفيدين من الأزمة». إذ أن شراء الشقق استُخدم كوسيلة لإنقاذ الودائع عبر الشيكات، «وعليه، يضمن صاحب الوديعة حقه بأمواله ويرتاح المصرف من عبء تسديد الديون ويبيع المطوّر شققه».
وكان رئيس قسم البحث والتحليل الاقتصادي في بنك بيبلوس نسيب غبريل أكد، قبل نحو شهر في جلسة «إعلان بيروت العمراني» التي نظّمتها نقابة المهندسين في بيروت، أن القطاع العقاري شهد انتعاشاً غير مسبوق. واستند في ذلك إلى أن عدد المعاملات العقارية وصل في خضم الأزمة، عام 2020، إلى 82 ألفاً و200 عملية، «أي بارتفاع نسبته 62% مقارنة مع تلك المسجّلة عام 2019». كذلك، وصلت مبالغ بيوعات العمليات العقارية العام الماضي إلى 14 ملياراً و400 مليون دولار، أي أكثر من ضعفَي تلك المُسجّلة عام 2019، فيما تجاوزت إيرادات الخزينة من الضريبة على العمليات العقارية في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2020 تلك التي حقّقتها الخزينة طوال عام 2019.
وأكد غبريل أن هذه الوقائع هي نتيجة التوجه نحو قطاع العقارات كوسيلة لإدارة الأزمة، «إذ انتقلت الودائع إلى القطاع العقاري وهو ما يؤكده تراجع الودائع بقيمة 35 مليار دولار، و55% من قيمة هذه الودائع ذهبت لتسديد قروض للشركات وللمطوّرين العقاريين الذين كانوا يعانون منذ سنوات بسبب تراجع الطلب على الوحدات السكنية. «وفي ظرف أشهر، تمكن المطوّرون من بيع مخزونهم المتراكم منذ سنوات من العقارات كما تمكنوا من تسديد قروضهم المصرفية بالكامل (...)، وعليه فإن فترة الأزمة، كانت أفضل مرحلة للمطوّرين»، وفق غبريل.
إلّا أن هذا الانتعاش لن يدوم حكماً، وفق ما يؤكد عدد من الخبراء الذين يرون أن تداعيات الأزمة على القطاع العقاري لن تظهر قبل عام 2022 وستكون «رفيقة» انهيار الاقتصاد كونها مرتبطة به.
الخبير المالي المتخصّص في العقارات جهاد الحكيم يرجّح أن أزمة العقار مرشحة للاستمرار حتى عام 2025 بأقل تقدير، «حتى ولو حصل انفراج سياسي، وذلك لارتباطها بأزمة المصارف وانعدام الثقة بالمنظومة القائمة»، لافتاً إلى أن الطلب على العقار يأتي من ثلاث جهات أساسية هي: الخليجيون، المغتربون والمقيمون في لبنان وجميعهم حالياً غير مهتمين بشراء العقارات.
من جهته يرى موسى أنه مع تسديد المطوّرين العقاريين لديونهم، فإنّ شراء الشقق السكنية والعقارات سيكون مرتبطاً بالدفع بالدولار نقداً، «الأمر الذي سيخلق أزمة سكنية خطيرة على صعيد التملّك والإيجار»، ذلك «لا يمكننا إلّا أن نرى تدهوراً في القطاع العقاري»، ومُشدداً على أن دخول القطاع السكني مرحلة صعبة «يحتم إعادة النظر بإنشاء وزارة للإسكان».
في الواقع، ثمّة إجماع بين الخبراء على ضرورة تغيير «النموذج» الذي كان يحكم عمل المطوّرين العقاريين طوال العقود الماضية، «فالمطوّرون أنفسهم عانوا من غياب تنظيم القطاع ومن المجحف تحميلهم المسؤولية حالياً»، بحسب نائبة رئيس نقابة المطورين العقاريين ميراي أبي نصر. الأخيرة لفتت في مداخلة في مؤتمر «إعلان بيروت العمراني» إلى أن اتّباع نهج جديد «بات أمراً لا بد منه»، وأكّدت أن التدخل السياسي المباشر في القطاع، كما بقية القطاعات الاقتصادية، أثّر بشكل سلبي عليه. وإذ شدّدت على أنه «لا يمكن تحميل المطوّرين عبء المشكلة والحل»، رأت أن «الحل العملي والعلمي يتمثل بإعداد خطط استراتيجية للتطور العمراني للمدن». ولفتت إلى «خطوات تنظيمية مهمة كان على السلطات التنفيذية القيام بها كإعادة تأهيل البنى التحتية وتطوير قطاع المواصلات... وعدم اعتماد مثل هذه الخطوات سيعرقل أي مسار للنهوض بالقطاع».
مع تسديد المطوّرين العقاريين ديونهم، سيكون شراء الشقق السكنية والعقارات مرتبطاً بالدفع بالدولار نقداً
يخلص غبريل إلى أن «على المطوّرين بدء البحث عن مصادر أخرى لتمويل أعمالهم غير المصارف، وعلينا أن نؤسس لخطة سكنية جديدة ووضع استراتيجيات لمواكبة تغيير النموذج».
ولعلّ ما يعزّز أهمية الإجماع على تغيير النموذج القديم هو حجم تأثيره على الحق في السكن الذي جرى تهميشه بسبب غياب السياسات الإسكانية. إذ يلفت الخبير في التخطيط الحضري ليون تلفزيان إلى أن العقار، «تاريخياً»، شكّل في ظلّ النظام الاقتصادي الريعي استثماراً مغرياً أفقد السكن قيمته الاجتماعية وحوّله إلى سلعة، «وأدّى تسليع العقارات إلى تضخّم كبير في الأسعار ساهم في طرد كثير من الفئات الاجتماعية من المدينة». وإذا كان ترنّح النموذج الاقتصادي الريعي في الوقت الراهن قد يغير «وظائف» العقار ويعزّز أبعاده الاجتماعية ويؤنسن الحق في السكن، غير أن صمود هذا النموذج، في المقابل، يعني الإبقاء على وظائفه السابقة التي سيذهب ضحيتها مزيد من الفئات الاجتماعية. وينبّه تلفزيان إلى أن «النموذج الحالي مخيف، إذ إنه ينازع ولا يموت. وفي حال تمكّن من الصمود، هناك مخاوف جدية حول مصير كثيرين من المُقيمين في المدينة المهددين بالطرد لمصلحة فئات اجتماعية ذات قدرة مالية أعلى، وذلك لأن هذا النموذج يستغلّ الأزمات ليسحق الفئات الأكثر ضعفاً».
قطاع البناء يتراجع
رئيس نقابة المقاولين في لبنان مارون الحلو أكّد أن الأزمة الاقتصادية أثّرت حكماً على قطاع البناء بسبب ارتفاع كلفة مواد البناء.
وتُشير أرقام نقابة المُهندسين إلى تراجع المساحات المبنية من تسعة ملايين متر مربع عام 2017 إلى أقل من أربعة ملايين متر مربع عام 2020. الحلو لفت إلى أن «لا موازنات لمشاريع جديدة في القطاع العام، ما أدّى إلى تراجع الأعمال بنسبة تصل إلى 90%». أمّا القطاع الخاص فـ«يعاني من تخمة في المكاتب التجارية والشقق، والسوق الداخلي بالكاد يمكنه تصريف مخزونه». ويؤثر ذلك، بالدرجة الأولى، على آلاف المهندسين. فـ«للسنة الثالثة على التوالي، لن يجد آلاف المهندسين فرص عمل مناسبة لهم، وسيكونون أمام خيارَي الهجرة أو العمل في غير اختصاصهم».
مجمّعات صناعية بدل الـ«مولات»؟
على خلفية تداعيات الأزمة الاقتصادية، يروّج عدد من الخبراء، منذ مدة، لتغيير وجهة استعمال المباني، ومن ضمنها المراكز التجارية. وبمعزل من غياب الرؤى المرتبطة بهيكلية المدن إذا ما استمرّت وتيرة «الهجرة» نحو الأرياف، تؤكد المعطيات الراهنة غياب أي توجه، في الفترة المقبلة، نحو بناء «مولات»، وذلك «لأننا نشهد منذ ثلاثة أعوام تراجعاً في أعمال تشييد المراكز التجارية، فيما أثّرت جائحة كورونا على الطلب على المكاتب التجارية بسبب العمل من المنزل»، وفق رئيس نقابة المقاولين مارون الحلو. ورجّح «أننا قد نشهد في الفترات المقبلة إقبالاً على مشاريع إنشاء مجمّعات صناعية ومصانع صغيرة في ظل التوجّه نحو تغيير النموذج القديم القائم على الاستيراد.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك