كتب أنطوان نجم:
نحن في 6 تشرين الأوّل 1983.
وكان قد مضى على "حرب الجبل"، رسميًّا، وفور انسحاب الجيش الإسرائيليّ إلى النهر الأوّليّ في الجنوب، 33 يومًا.
البلاد تغلي بأحقاد وتهديدات سورية ومنفّذيّ سياستها من اللبنانيّين. تقابلها محاولات تهدئة ومساع للخروج من الأزمة.
في هذا الظرف الدقيق والجوّ المشحون، وصل إلى بيروت، في 3 تشرين الأوّل 1983، رجل سعى لإطفاء الحرائق وجمع الشمل، اسمه رفيق الحريري.
كانت عندي عنه أصداء. منها ما يصفه بالإخلاص والرؤى الصائبة، ومنها ما يعمل على تحميله نيّات مبيّتة.
ولكنّ اجتماعًا، انعقد برئاسة قائد القوّات اللبنانيّة، أيّامئذٍ، فادي فرام، كشف لي جانبًا من حقيقة الرجل: إنّه رجل سلام، مقدام، وملتزم، كلّ الالتزام، بوقف إراقة الدماء وإرساء الأمن والأمان.
وأترك لمحضر الاجتماع أن يروي ما قيل فيه عنه:
محضر اجتماع
يوم الخميس الواقع فيه 6/10/1983
المكان: مكتب إيلي حبيقة في مبنى الأمن، من الساعة 19 والدقيقة 20 لغاية الساعة 21
الحضور: فادي فرام، حنا سفطلي، انطوان بريدي، كريم بقراردوني، سجعان قزّي، ألفرد ماضي، سليم الجاهل، فؤاد أبو ناضر، نعّوم فرح، د.جان غانم، أسعد سعيد، انطوان نجم
فادي فرام: إلتقيتُ اليوم رفيق الحريري. تحدّث باسم المملكة العربيّة السعوديّة. المبادرة هي مبادرة الملك فهد. ويهمّه أن تنجح المبادرة. الحريري ليس مرتاحًا للسوريّ. وقال إنّ من المهمّ أن نتّفق في ما بيننا نحن اللبنانيّين. قلتُ له: منذ شهر ونحن نطلب أن يصعد الجيش إلى إقليم الخرّوب. وأنتم قادرون أن تساعدونا. بالنسبة إلى دير القمر: برأينا أنّ قوّة متعدّدة الجنسيّة تستطيع مع قوى الأمن أن تتمركز في دير القمر. عندها نسحب قوّاتنا. بالنسبة إلى الأهلين، نفضّل أن يبقوا في بلدتهم. فإذا تركوها، يقوم الكانتون الدرزي. المهمّ الآن هي المشكلة الإنسانيّة في دير القمر. سألتُه إذا ما كانت المملكة السعوديّة تستطيع القيام بأيّ تحرّك إنسانيّ عبر الصليب الأحمر؟ أجاب: نحن حاضرون للقيام بهذا. ونباشر فورًا به. (بحسب ما فهمتُ، باشروا في شراء الإسفنج والحرامات).
وعن الجنوب، قلتُ: لا نريد مشاكل مع الشيعة. أجاب الحريري: أستطيع تأمين اتّصال مباشر مع برّي. قلتُ: لا نريد أن نكون كبش محرقة في حال توصّلنا إلى صيغة معيّنة لإزالة كلّ المظاهر المسلّحة هناك (الثكنات).
جان غانم اجتمع مع عاكف حيدر ومحسن جلّول (نائب رئيس الحزب الاشتراكيّ).
جان غانم: توجّهتُ مع الحريري إلى (بيروت) الغربيّة لأجتمع مع عاكف حيدر. دخل محسن دلّول. فوجئتُ به. وجاء مع حيدر، ممثّل اللجنة الأمنيّة في "أمل". إنطباعي الأوّل عن الحريري أنّه شخص جيّد جدًّا. أبتدأت الجلسة بكلمة من الحريري قال فيها: "نحن مجتمعون هنا بغطاء من اللجنة الأمنيّة لنطرح الأمور، ولنعرف مدى تجاوب الفرقاء. أتحدّث معكم، هنا، كسعوديّ وممثّل الملك فهد. آمل أن يبدأ الحوار سريعًا لتنتهي المشاكل في لبنان. هناك مناطق سوف تتغيّر فيها الصيغة (الأمنيّة). أتكلّم عن إقليم الخرّوب-الطريق الساحليّ-الجنوب-دير القمر. ولم أتوقّع أن تكون القوّات اللبنانيّة هكذا، وأن يكون التجاوب هكذا من قِبَلها. بالنسبة إلى إقليم الخرّوب: سوف يصعد الدرك السنّيّ والجيش المسيحيّ. البرجَين-عين الحور-الدبّيّة: يصعد الجيش، وتصعد معه قوّة رمزيّة من الجيش إلى إقليم الخرّوب وقوّة من الدرك". إعترض محسن دلّول. أجابه الحريري: "هكذا قررتُ، وقد اتّفقت مع وليد جنبلاط. الجيش سوف يصل إلى الأوّلي على أن تنسحب القوّات اللبنانيّة". سأل الحريري: أيّة معارضة محسن دلّول؟ أجاب دلّول: كلّا! ولكن يجب أن يصعد الدرك إلى الشحار. أجاب الحريري: لا تُدخلني في هذا.
عارضتُ أنا (جان غانم)، لأنّنا كنّا قد اتّفقنا ألّا ينسحب الجيش من أيّ منطقة موجود فيها. فطلب الحريري أن لا يدخل أحد في هذه المشكلة، وأنّه سيحلّها مع وليد جنبلاط.
سأل الحريري عن المشرف. أجابه دلّول: إنّ القوّات اللبنانيّة مستعدّة للانسحاب. قاطعتُ (غانم) دلّول وقلتُ له: إنّنا لن ننسحب قبل أن تنتهي قضيّة دير القمر، وقبل أن ينتشر الجيش.
الحريري: القوّات اللبنانيّة مستعدّة لأن تسحب قوّاتها وعناصرها من دير القمر، ولكنّها ليست مستعدّة أن تترك دير القمر. فمن برأيك -موجّهًا كلامه إلى دلّول- سيحلّ محلّ القوّات؟
دلّول: الدرك.
الحريري: إسمح لي! هل سيدافع الدرك عن دير القمر؟ أنا لا أمشي بهذا المنطق. فكيف تريد أن تمشي به القوّات؟ رأيي، أنا، أن تطلع قوّة من المتعدّدة مع الدرك وتتمركز. ما رأيك جان؟
جان غانم: موافق تمامًا.
دلّول: عناصر القوّة المتعدّدة، إنكليز أو فرنسيّون؟ أنصحك أن تطلب من وليد أن يوافق على الفرنسيّين.
الحريري: سأتكلّم معه.
جان غانم: ما من مانع بالنسبة إلينا أن يكونوا فرنسيّين. 150 عنصرًا من قوّات الأمن مع فرنسيّين يستلمون مدخل دير القمر.
الحريري: أتّفقنا على الموضوع. نبتُّه عندما نتكلّم مع وليد.
بالنسبة إلى الجنوب: إسرائيل تشتغل بالجميع. تريد أن تؤلّف جيشًا شعبيًّا شيعيًّا، وتساعد القوّات. وهذا سيؤدّي إلى كارثة.
عاكف حيدر: كـ"أمل"، نحن نشهّر بالجيش الشعبيّ منذ 5 أيّام. ونطلب من عناصرنا عدم الالتحاق به. وبالنسبة إلى المحتجزين: إتّفقنا أن تقدّم لائحة بالأسماء.
فادي فرام: هدفي من الاتّصال بالحريري هو تأمين حلّ قضيّة دير القمر. ولا أحمّل هذه اللقاءات أكثر من هذا: تأمين المؤن.
انطوان نجم: إنّني مع الحلّ المقترح لدير القمر، وذلك لسببَين:
1. لا يعود عندنا رهائن تشلّ عملنا.
2. المهمّ ألّا يدخل الدروز إلى دير القمر، فلا يُحرق بيت ولا تحصل مجزرة. إذا كانت القوّات المتعدّدة الجنسيّة تؤمّن ذلك، وإذا كان أهالي دير القمر مرتاحين في الدخول إلى بلدتهم وفي الخروج منها بحرّيّة وأمان، نكون قد ربحنا دير القمر على نحو محسوس، ولم تعد رهينة. علمًا بإنّنا لا نستطيع أن نطلب إلى المقاتلين والديريّين أن يبقوا فيها".
* * *
لم يعطِ سعي رفيق الحريري ثمارَه في الحال. وما كانت المعطيات المعقّدة على أرض الواقع لتسمح بالنجاح السهل الذي يظنّه المخلصون.
فاتّفاقات وقف إطلاق النار، على تعدادها، لم تُحترم.
والاشتباكات والمعارك، على أكثرها، وانتقالها من مكان إلى آخر، لم تتوقّف. على العكس. فقد ازدادت اشتعالًا بدخول "حرّاس الثورة الخمينيّة" على خطّ المشاركة في الموت والدمار.
وقرارات مؤتمر الحوار في جنيف، 31/10-4/11/1983، لم تُفضِ إلى نتيجة.
واجتماعات رفيق الحريري في 19/10 مع الرئيس الجميّل في قصر بعبدا، وفي 20/10 مع وزير الخارجيّة، الدكتور إيلي سالم، ومستشارَي رئيس الجمهوريّة في قصر بعبدا، وفي 25/10 في دمشق، مع عبد الحليم خدّام ووليد جنبلاط، أسفرت، بعد جهود مضنية، في 15/12/1983، عن البدء في خروج مهجّري الجبل وأفراد "القوّات اللبنانيّة" من دير القمر، والذي انتهى في 22 من الشهر نفسه. تمّ نقل 2500 مقاتل من "القوّات اللبنانيّة" إلى ميناء جونيه، و5168 مدنيًّا إلى ملعب برج حمّود، بمواكبة قوى الأمن الداخليّ والصليب الأحمر الدوَلي والقوّات الإسرائيليّة. مسلحّون اعترضوا قوافل النازحين، وسلبوا عددًا منهم أموالهم وحليّهم، وأطلقوا النار على قافلة السيّارات المدنيّة الخاصّة، ممّا أدّى إلى جرح 3 أشخاص.
وفي 16/12/1983، التقى رفيق الحريري، في دمشق، العقيد سيمون قسيس، مدير المخابرات اللبنانيّ، والعقيد الركن جان ناصيف، ممثّل الجيش اللبنانيّ في لجنة الترتيبات الأمنيّة، وعبد الحليم خدّام وعسكريّين سوريّين، ومروان حماده وخالد جنبلاط. أسفر اللقاء عن اتّفاق على ورقة عمل تفصيليّة، من خطواتها التطبيقيّة الأولى: وقف إطلاق النار وقفًا دائمًا وجدّيًّا، والتعهّد بعدم قصف التجمّعات المدنيّة والقرى، وفتح مطار بيروت الدوَلي وتحييده من قِبَل الجميع.
ولكنّ الحرب بقيت على احتدامها.
"إنّما الأعمال بالنيّات".
و"نيّة المؤمن أبلغ من عمله".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك