أعادت التسوية في ملف تثبيت المياومين الفرز في المشهد السياسي إلى فرز مسيحي-إسلامي عبر موافقة "حزب الله" و"أمل" و"المستقبل" و"جبهة النضال الوطني" على المشروع، واعتراض "تكتّل الإصلاح والتغيير" و"الكتائب" و"القوات اللبنانية".
لا شيء يُبرّر أو يستدعي هذا التموضع الذي يتحمّل مسؤوليته بالدرجة الأولى "حزب الله" من جهة 8 آذار و"المستقبل" من جهة 14 آذار، إذ كان يفترض بهما الوقوف عند تحفّظات حلفائهما وهواجسهم وأخذها في الاعتبار قبل الذهاب نحو التصويت وإقرار المشروع.
فالإشارة التي أعطيت غير مطمئنة من قبل الفريقين المؤيد للتسوية والمعترض عليها، إذ بدا الفريق المؤيّد والمُوزّع عملياً بين فريقين، الأوّل مستفيد وهو حركة "أمل"، والثاني مساير ومُغطّ وهو "المستقبل"، وكأنّه يُبدّي المصلحة الإسلامية بتوظيفات تخدم مناصريه ومحاسبيه بعيداً من أيّ معايير علمية، فيما بدا الفريق الثاني وكأنّه يُبدّي الأولوية الانتخابية، لكن من دون التقليل من حرصه على رفض أي إخلال بالتوازنات... وباختصار شديد وفّر "الحزب" الغطاء لـ"الحركة" على حساب تحالفه مع "التيار"، فيما وفّر "المستقبل" الغطاء لـ"الحركة" على حساب تحالفه مع "القوات" و"الكتائب".
وكان من الأجدى، ربّما، لو أنّ مسيحيّي 8 و14 آذار عملوا بشكل جدي داخل تحالفاتهم الوطنية على معالجة ملف المياومين، بدلاً من الظهور بهذا المشهد المسيء للمسيحيين والمسلمين وللتحالفات التي نسجوها على قضايا وطنية منذ العام 2005 إلى اليوم، إذ إنّه على الرغم من حدّة الصراع والانقسام الذي انطلق بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري بين مشروعين متناقضين، إلّا أنّ إيجابيته الوحيدة تكمن في أنّه عابر للطوائف وأخرج اللبنانيين من الصراع الطائفي الذي تآلف مع الحياة السياسة لعقود من الزمن.
فالتحالف المسيحي-المسيحي يكون مُبرَّرَاً في حال واحدة، وهي حال اتفاقهم على رؤية وطنية مشتركة، أي النظرة إلى دور لبنان وقضية سلاح "حزب الله" وقيام الدولة وحصرية السلاح داخلها ورفض انتهاك السيادة، ولا بأس حينذاك من انقسام مسيحي-إسلامي في حال اتّخذ المسلمون، كلّ المسلمين، خيار الانحياز إلى مشروع الدويلة والتسوية على حساب لبنان، أمّا أن يتحوّل الاصطفاف إلى اصطفاف طائفي تحت عنوان ثانوي وفرعي وجزئي، فهذا الأمر لا يمكن تبريره ولا الدفاع عنه، إذ من غير المقبول إعادة المشهد الوطني في لبنان إلى ما قبل العام 2000.
وفي هذا السياق، ثمّة مسؤولية رئيسة وأخرى ثانوية داخل فريق 14 آذار، لأنّ حسابات 8 آذار مختلفة تماماً وتدخل في سياق خدمة أيّ مشروع يقوّض الدولة ويبرّر انقسام اللبنانيين لاستمرار السلاح، وبالتالي المسؤولية الرئيسية تقع على تيار "المستقبل" الذي كان عليه القيام بخطوة أو موقف أو تنازل للحؤول دون بروز هذه الصورة ولو على حسابه.
فمصلحته الاستراتيجية تكمن في الربط مع حلفائه المسيحيين، وليس في إرضاء الرئيس بري على حسابهم في موقف تكتيكي ينعكس سلبا على صورة 14 آذار التي يفترض أن تكون موحّدة في القضايا الكبيرة والصغيرة منها.
ومن ثم إنّ وقوف "المستقبل" ضدّ المشروع كان سيفرض إمّا إعادة البحث بهذا المشروع أو إسقاطه، وبالتالي كان أنقذ صورة التحالف الاستقلالي وأمّن المخرج اللائق لشركائه المسيحيين، لأنّ صورتهم مع "التيار الحر" مسيئة للمسيحيين ودورهم، نظراً إلى تموضع العماد عون السياسي من دعم النظام السوري إلى تغطية سلاح "حزب الله" والوقوف في مواجهة السواد الأعظم من العرب والمسلمين، فضلاً عن أنّ المراقب العربي غير معنيّ في التدقيق بالسياسات المحلية، ويكفي في هذا الإطار رؤيته للمسيحيين موحّدين ليخرج بانطباع أنّهم ضدّ التحوّلات الجارية، الأمر الذي يضعهم في نفس خانة الطائفة الشيعية التي باتت مأزومة ومعزولة بفضل الحزب وسياساته.
ومَن يقوم بمبادرة حيال النائب وليد جنبلاط يشرح فيها موقف 14 آذار من الإنفاق المالي متمنّياً تأييده لهذا التوجّه، كان من الأولى به التنسيق مع حلفائه قبل الدخول إلى الجلسة والاتفاق على كل واردة وشاردة فيها.
هذا من ناحية "المستقبل"، أمّا لناحية مسيحيّي 14 آذار فالمسؤولية عليهم هي ذات طابع إداري وتقني، إذ كان يفترض بهم أوّلا تهيئة بيئتهم لناحية موقفهم الرافض إقرار تثبيت المياومين لهذا السبب أو ذاك، ومن ثم الدخول في مفاوضات علنية مع التيار الأزرق وتحميله مسؤولياته في هذا المجال. فالمفاوضات داخل الفريق الواحد لا تتمّ داخل أروقة المجلس النيابي، إنّما يُصار إلى بلورتها وإنضاجها قبل الجلسة النيابية. فليس تفصيلاً أن تبدأ خيارات 14 آذار بالافتراق من المشاركة في طاولة الحوار إلى ملف المياومين...
ولكن على هامش "الصورة المسيحية" يبقى أمر في غاية الأهمية ويتّصل بانتقال المعارضة بين ليلة وضحاها من مرحلة الدعوة إلى إسقاط الحكومة إلى مرحلة التساكن معها على طاولة الحوار، وصولاً إلى مدها بالأوكسيجين من خلال إقرار قانونَي الإنفاق المالي والمياومين، الأمر الذي يطرح جملة تساؤلات حول أداء هذه المعارضة وسلوكها...
ويبقى أخيراً أنّ انتقاد "المستقبل" متأت من الرهان على دوره في ترسيخ خيار "لبنان أوّلاً" والذي شرطه عدم العودة إلى المربّعات الطائفية، وأمّا انتقاد 14 آذار مجتمعة فلكونها ما زالت تجسّد خشبة الخلاص للعبور إلى الدولة المنشودة...ومن لديه خيارات أخرى أو بدائل فليتفضّل...
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك