كتب الأستاذ الجامعي جو رحال:
تعتبر المفاوضات الحربية من الأدوات الأكثر تعقيدا المستخدمة لتحقيق الأهداف السياسية والاستراتيجية. ولا يقتصر الأمر على الحوار أو الاتفاق، بل هو جزء من التكتيكات العسكرية والقرارات السياسية التي تغير مسار الصراعات وتحدد مستقبل أطراف الصراع. وفي هذا السياق يتداخل ويجتمع البعد السياسي مع التكتيكات على الأرض لتشكل ديناميكية تؤثر على جميع أطراف الحرب.
التفاوض كأداة سياسية: من الناحية السياسية فإن المفاوضات في الحرب تخدم تحقيق مكاسب قد يكون من الصعب تحقيقها بالقوة العسكرية وحدها. في كثير من الأحيان، عندما تجد الأطراف نفسها في مأزق عسكري أو تواجه ضغوطات دولية، تصبح المفاوضات وسيلة لتجنب خسائر كبيرة أو لتعزيز الموقف السياسي. على سبيل المثال، نعتبر وقف إطلاق النارالمؤقت يوفر فرصًا تسمح للأطراف بإعادة تنظيم قواتها أو تحسين مكانتها الدولية. وهنا يتم التأكيد على أهمية المفاوضات كأداة لتعزيز المواقف الدبلوماسية وتحديد خصائص المستقبل السياسي للأطراف. فضلاً عن ذلك فإن المفاوضات قد تكون وسيلة لكسب الوقت أو لإقناع الرأي العام الدولي بجدية أي طرف في السعي إلى تحقيق السلام. في بعض الأحيان، يمكن للحكومات أن تحاول استخدام المفاوضات للتأثير على مسار الرأي العام أو لتعزيز شرعية موقفها أمام المجتمع الدولي، حتى لو كانت أهدافها الحقيقية تختلف عن تلك المذكورة.
التفاوض كتكتيك عسكري: من الناحية العسكرية، يمكن أن تكون المفاوضات جزءًا من استراتيجية أوسع لتحييد العدو أو شراء الوقت لإعادة تجميع صفوفه. في بعض الأحيان يتم استخدام وقف إطلاق النار أو المفاوضات كفرصة لتحسين الظروف العسكرية، إما لتحسين القدرات اللوجستية، أو تعزيز مواقع الخطوط الأمامية، أو حتى لاستعادة الأوضاع العسكرية وتقييم الوضع على الأرض. ويمكن استغلال هذه الاستخدامات التكتيكية للتفاوض كوسيلة لتحقيق مكاسب عسكرية غير مباشرة. على سبيل المثال، قد تستخدم بعض الأطراف مفاوضات السلام أو وقف إطلاق النار المؤقت فقط لمنحهم الوقت الكافي للاستعداد لهجوم آخر. وهنا يظهر التفاوض كتكتيك يهدف إلى خداع العدو أو تخفيف الضغط العسكري في اللحظات الحرجة، مما يؤكد أهمية التعامل مع المفاوضات بحذر في سياقات الحرب. وتجرى المفاوضات عادة من موقع قوة عندما تكون الظروف العسكرية مواتية لأحد الأطراف. فالقوة على الأرض تمنح مفاوضي هذا الطرف ميزة فرض شروط قاسية على الخصم. ومن ناحية أخرى، عندما يكون الوضع العسكري معقدا أو متوازنا، يلجأ الجميع للتفاوض لتجنب الخسائر. إضافة إلى ذلك، يمكن أن تفرض ضغوط على الأرض، مثل زيادة الخسائر البشرية أو الانهيار الاقتصادي، على طرف ما، مما يدفعه إلى طاولة المفاوضات لإيجاد الحل. فالميدان، بتقدمه وتراجعه، يشكل الإطار الحقيقي الذي تبنى عليه شروط التفاوض.
التحديات الأخلاقية والقانونية: في سياق الحرب، يواجه المفاوضون تحديات أخلاقية وقانونية. ورغم أن الاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقيات جنيف، تلزم بحماية المدنيين واحترام القانون الإنساني، إلا أن بعض الأطراف يمكن أن تستخدم هذه القوانين كأداة أو تنتهكها لأغراض عسكرية. وهذا التداخل بين القضايا الإنسانية والمصالح الاستراتيجية تجعل مفاوضات الحرب عملية حساسة مليئة بالتحديات الأخلاقية. على سبيل المثال، يمكن للمفاوضات الإنسانية التي تهدف إلى فتح ممرات آمنة لتوصيل المساعدات الغذائية أن تكون بمثابة ذريعة لتأمين المواقع العسكرية أو تحريك القوات دون تدخل. وفي مثل هذه السيناريوهات، تصبح المفاوضات معقدة بشكل متزايد بسبب التفاعل بين الاعتبارات الإنسانية والمصالح العسكرية. إن التفاوض في الحرب عبارة عن مزيج معقد من السياسة والتكتيكات والميدان. وهي أداة متعددة الأوجه تستخدم لتعزيز المواقف أو تجنب المزيد من الخسائر، ونجاحها يعتمد على القوة على الأرض وعلى طاولة المفاوضات.
المفاوضات ليست وسيلة لإنهاء القتال فحسب، بل هي جزء من حرب المناورة، إذ تستخدم لتحقيق أهداف ربما تكون بعيدة كل البعد عن البحث الحقيقي عن السلام.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك