كتب الدكتور إيلي الياس:
منذ نشأته، واجه الكيان اللبناني تهجمات مستمرة تعكس تناقض الرؤى حول مستقبله، من دعوات الوحدة مع سوريا في زمن الانتداب الفرنسي، إلى الضغوط العروبية في عهد عبد الناصر، وصولاً إلى استغلال أراضيه كساحة للنزاعات الإقليمية. لطالما تحول لبنان إلى مسرح للصراعات التي تتجاوز حدوده، سواء في دعم الكفاح المسلح الفلسطيني أو تحت وطأة السلاح الإيراني الذي يتناقض بوضوح مع المشروع الحضاري اللبناني.
في مقال نُشر مؤخرًا في “الأخبار”، يزعم أن الفرنسيين خططوا منذ عام 1860 لإنشاء “دولة مسيحية” في لبنان. وبالطبع، نضع هذه المغالطة التاريخية المتعمدة في السياق نفسه الذي أشرنا إليه في بداية النص. ليس من الضروري ان تعني كلمةGouvernement - حكومة او سلطة، بل كانت تعني تواجد او حضور فاعل. وهو ما استند اليه كاتب المقال ليبني سرديته. فهذا التهجم والتزوير ضد مشروع الكنيسة المارونية في إنشاء لبنان الكبير ليس بجديد؛ والمؤسف أن من يهاجمه هم أخصام الحرية وأتباع الأنظمة الشمولية الذين يسعون جاهدين لطمس الحقائق التاريخية رفضًا للبنان.
يعتمد المقال على خريطة يدعي أنها سرية لإنشاء كيان طائفي، وهي ليست كذلك. بل كانت ببساطة خريطة تحدد مناطق انتشار المسيحيين في لبنان والولايات السورية، تحديدًا في دمشق وحلب، خلال مجازر 1860. هذه المجازر كانت رد فعل على الصلاحيات التي حصلت عليها الجماعات غير المسلمة في إدارة شؤونهم ضمن تلك الولايات. أما الخريطة الثانية، فهي خريطة عسكرية للجيش الفرنسي، رُسمت بعد تمركز القوات في البقاع وحتى حدود دمشق، بعد إنهاء الصراع الدامي الذي استمر عامًا كاملاً. هذه الخرائط العسكرية ليست سوى أدوات للتخطيط الاستراتيجي، وليست دلائل على مؤامرة استعمارية.
ثانيًا، تجاهل المجازر التي استهدفت المسيحيين في لبنان وسوريا عام 1860 يفتقر إلى الأمانة العلمية. هذه المجازر، التي أودت بحياة عشرات الآلاف وأدت إلى تدمير الكنائس والمنازل، دفعت القوى الأوروبية للتدخل لحماية المسيحيين. ومن الجدير بالذكر أن الإخوة المسابكيين كانوا من بين الشهداء في هذه الأحداث العنيفة.
ثالثًا، مشروع إنشاء كيان مستقل في لبنان له جذور تاريخية طويلة، كما تشهد على ذلك كتابات المؤرخين اللبنانيين، وعلى رأسهم كمال الصليبي. المشروع، الذي بدأ يتحقق منذ عام 1840 ونشأ مع المتصرفية، تبلور نهائيًا في ظل الحرب العالمية الأولى. هذا التطور لم يكن مجرد نتاج لإرادة استعمارية، بل كان نتيجة لتفاعل العوامل المحلية والدولية والإصرار على عدم القبول بواقع كمواطنين من الدرجة الثانية في السلطنة العثمانية.
رابعًا، الادعاء بأن القوى المحلية كانت مجرد أدوات بيد المستعمر يغفل بشكل كبير الدور الذي لعبته الكنيسة المارونية من خلال بطاركتها ومطارنتها والعلمانيين في تشكيل مشروع وطني بمفاهيم وأفكار سياسية تتماشى مع الظروف التاريخية التي عاشوا فيها.
ختامًا، قراءة التاريخ بموضوعية تتطلب الابتعاد عن السرديات الأحادية والمختزلة وتجنب الكراهية الشوفينية. الواقع التاريخي معقد ومتداخل، ويتطلب فهمًا شاملًا لجميع العوامل المؤثرة. الثابت الوحيد في كل المراحل والتحديات التي ذكرناها آنفًا هو بقاء لبنان المشروع الحضاري، ولكن ما زالت الطريق طويلة لاستعادته.
أيضًا في التاريخ: تزوير وكراهية
الــــــســــــابــــــق
- عماد الأشقر لـmtv: خمسة في المئة من قيمة الموازنة العامة فقط مخصصة لوزارة التربية وبمسعى من الوزير تمكنّا من رفع القيمة إلى 10 في المئة ولكنّها مع ذلك لا تغطي التكاليف
- نعمة محفوض لـmtv: إذا لم نعطِ قطاع التعليم أهمية فإنّ مستقبل البلد سيكون مظلماً
- بالفيديو: دقيقة من جبران لرياض سلامة
- "الخارجية": نتضامن مع مصر
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك