أبعد من الهدوء المستعاد عند تخوم الحدود اللبنانية الشمالية - الشرقية في منطقة الهرمل، بعد مناوشات شهدتها في الأسبوع الماضي بين مجموعات مسلحة لبنانية وسورية، يفرض الميدان أمراً واقعاً جديداً، بدأ يثبّت دعائمه على أنقاض انهيار محور إيران وخسارته امتيازاته التي وفرتها له هذه الناحية من الحدود. لم تعد بيئة "حزب الله" التي تحكمت بالمعابر التي تربط الحدود اللبنانية في منطقة القصير التي احتلها سابقاً، واثقة بعد بفائض قوتها. بل ترافقت التبدلات السياسية، مع تغيرات ديموغرافية سريعة، وضعت "شيعة المحور" في مواجهة مع من استعادوا ملكياتهم المصادرة على التخوم السورية لهذه الحدود. فهل تدفع البيئة الحاضنة لـ"الحزب" مجدداً ثمن حساباته الخاطئة؟
ليس مرحباً اليوم بـ"الشيعة" تحت سيادة النظام السوري الجديد في قرى ريف حمص المحاذية لمنطقة الهرمل. على الرغم من كل ما يقال عن وقوع هذه القرى رهينة الدواعش والتكفيريين، ثمة قناعة لا يجاهر بها الكثيرون، بأن العشائر التي استقوت بتمدد نفوذ "حزب الله" إلى منطقة القصير في الأعوام الماضية، تعامل كما عومل أبناء المنطقة المعارضون لنظام بشار الأسد. فهؤلاء أيضاً دُفع بهم إلى خارج بلداتهم، وقيل لهم إن "عودتهم صارت حلماً مستحيلاً".
مع أن الاستقواء هذه المرة، هو بالسلطة الشرعية في سوريا المتمثلة بهيئة تحرير الشام، إلا أنه بحسب أحد النازحين الجدد صار "كل عشرة أشخاص قادرين أن يشكلوا هيئة تصدر أحكاماً فورية بإعدامهم أو تأمرهم بإخلاء البيوت أو تبتزهم". يتحدث الرجل مثل الكثيرين غيره، عن حالات انتقامية فردية تنشر الفوضى في معظم قرى ريف حمص الشيعية أو المختلطة. ويكشف بعضهم أنهم سمعوا ذلك بصراحة "كما هجّرنا أربعة عشر عاماً فلن نسمح أن تعودوا قبل أن تشربوا من الكأس نفسها".
سقوط نظام بشار أسرع مما استغرقه عصر الزيتون
تتنوع حكايات النازحين الجدد عن أسباب هجرتهم ومواعيدها. يقول أحدهم "كان عندي 1200 شجرة زيتون، قطفت إنتاج عشرين شجرة وذهبت بها إلى المعصرة، وما إن عدت حتى أدركت أن النظام قد سقط. تركت كل شيء وهربت، فخسرت الزيت وخسرت الشجر".
معظم من نزحوا مع سقوط نظام الأسد هم عسكريو جيشه. في منطقة الشواغير التقينا بعضاً من يقيمون بين ركائز مبانٍ لم تجهز حتى بحمامات. يؤكد هؤلاء أنهم حتى كعناصر في الجيش قد يجدون أسباباً تخفيفية، لكن تهمتهم الأكبر أنهم من الشيعة. فكل شيعي كما يقول أحدهم متهم بمساندة "حزب الله" وبشار، إلى أن يثبت العكس. بينما الفيديوات التي توثق التنكيل بأبناء طائفتهم، سواء في "الغور"، "البويضة"، "الصالحية" وغيرها من الأماكن، تعتبر كافية كي تهشلهم، حتى لو لم يتعرضوا لاضطهاد مباشر كما يقولون.
في حديثه لـ"نداء الوطن" عن الضغط الشعبي الكبير الذي تسبب به تدفق النازحين الجدد، يروي نائب رئيس بلدية الهرمل عصام بليبل "استيقظنا صباح 8 كانون الأول على 140 ألف شخص، من لبنانيين وسوريين، أضيفوا إلى سكان الهرمل فجأة. توجه اللبنانيون مباشرة إلى منازل أقاربهم أو حتى منازلهم في أماكن تسجيل نفوسهم، ليستغرق الأمر أياماً قبل أن يتوزع النازحون السوريون على قرى بعلبك الهرمل. فاستقر عددهم بين مدينتي الهرمل والقصر حالياً على نحو 40 ألف نازح جديد، انضموا إلى عشرة آلاف نازح سابق، بينما مجمل سكان مدينة الهرمل لا يصل إلى الأربعين ألفا".
استدراج انقسامات سوريا إلى الداخل اللبناني
في ظل الدمار اللاحق بقرى جنوب لبنان جراء تورط "حزب الله" في حرب المشاغلة، لم يُرحَّب بالنازحين الجدد سوى في بعلبك- الهرمل. أخذ "الحزب" على عاتقه مسؤولية إيوائهم في بيئته، من دون أي حساب لما يمكن أن يستدرجه ذلك من مشاكل سوريا إلى الأراضي اللبنانية، خصوصا أن بين المهجرين الجدد محاربين في صفوف "حزب الله" أو الجيش السوري، يرفضون العودة من دون ضمانات دولية تحميهم من التصفية. بينما العودة الطوعية المرجوة لحلفاء النظام الحالي، لا تبدو حتى الآن قريبة المنال.
لم تُشكل ممانعة الدولة لإقامة المخيمات الجديدة، حائلاً دون توافد النازحين الجدد، ولا حتى ارتفاع كلفة الهروب عبر المعابر غير الشرعية. تقول إحداهن إن أقارب لها دفعوا مبلغ 12 مليون ليرة سورية حتى عبروا الحدود، ومن هرّبهم "من جماعتهم ومش من جماعتنا". وهذا ما زاد من أعباء السلطات العسكرية اللبنانية التي سارعت إلى التنسيق مع اللجان المضيفة، لجعل حركة هؤلاء داخل الأراضي اللبنانية تحت نظر الجيش ومخابراته، والحواجز العسكرية التي تقوم بتفتيشهم والتأكد من أماكن وجودهم".
الهيئات الداعمة عاجزة وأموال إيران محظورة
في المحصلة، معظم حسينيات الهرمل صارت مكتظة حالياً بالنازحين الجدد، وهذا ما يتسبب بواقع متأزم مرشح للتفاقم مع الاستحقاقات الدينية القادمة، لا سيما مع حلول شهر رمضان وذكرى عاشوراء. أما من لم تتسع لهم الحسينيات فقد جرى إيوائهم في مبان غير مكتملة.
يؤكد رئيس بلدية الهرمل "أن مصادر تمويل المساعدات تتضاءل بشكل مستمر". في هذا السياق، يتحدث حسين مرتضى وهو أحد أعضاء لجان الإيواء المشكلة في المحافظة "عن تراجع نسبة المساعدات بشكل كبير في الأسابيع الماضية، بحيث باتت تقتصر على أكياس البرغل والمعكرونة، بينما الحاجات أكبر بكثير". كل ذلك في ظلّ حصار مفروض على تدفق أموال إيران، بحيث تكاد مظاهر دعمها للمجتمعات التي تورطت في حروب محاورها تقتصر على شوادر وزعت على مراكز إيواء باسم الهلال الأحمر الإيراني، حتى لو كان "حزب الله" هو من يؤمن معظم نفقات إيواء النازحين الجدد حالياً.
ما مصير الملكيات الواقعة تحت سيادة سوريا
في المقابل، لا يبدو تمدد شيعة حمص داخل الأراضي اللبنانية منفصلاً في خلفياته عن الهواجس التي تزايدت لدى شيعة الهرمل من الاستيلاء على ممتلكاتهم في الأراضي السورية. فكان أن طرقت هذه المسألة باب القصر الجمهوري في لقاء جامع لممثلي عشائر الهرمل مع الرئيس جوزاف عون، سلموه في خلاله مذكرة تطالب الدولة اللبنانية بالتدخل مباشرة لحماية ملكيات عائلات الهرمل وعشائرها الواقعة تحت السيادة السورية في 21 قرية، ولديهم إثباتات بملكيتها صادرة منذ سنة 1825. كما تطالب الدولة ببسط هيبتها على الحدود، لوقف كل عمليات التهريب والاتجار بالمخدرات، بالإضافة إلى الانطلاق بورشة إنماء المنطقة، والاستثمار في مقدراتها الاقتصادية والسياحية، بما يؤمن لناسها موارد رزق شرعية.
مفلح علّاو، أحد وجهاء العشائر الذين شاركوا في الوفد قال "إن ما يحصل على الحدود أبعد من صراع نفوذ بين المهربين"، أضاف "نحن مستهدفون بحقدٍ مذهبي تاريخي منذ 1400 عام" معتبراً "أن حصانة المجتمع اللبناني في منطقة الهرمل تقتضي حماية الحدود مع سوريا التي تبدلت الديموغرافيا فيها إلى حدٍ بعيد".
يشدد علّاو "على أن العشائر لا يمكن أن تقبل بالخلفيات الانتقامية من منطلقات داعشية. ولا ترغب بفتح معركة على حسابها، لذلك نقول إننا سنحتكم للدولة". مشدداً على "أننا لا نريد كطائفة امتيازات، لكن لن نقبل بأن ينتقم أحد من وجودنا، أو يحاول استضعافنا أو ينفذ غايات خارجية ضد الطائفة الشيعية".
الكلمة للقوي وليس للآدمي
على الرغم من المسؤوليات التي تحاول العشائر تحملها في ضبط النفس على الطرف اللبناني من الحدود، خصوصاً في ظلّ حالة الحصار الجوي الذي تفرضه إسرائيل على الحركة العسكرية لـ "حزب الله" من خلال استهدافها المتكرر لمعابر لبنان الشمالية الشرقية، يقول علّاو "إنه داخل العشيرة اليوم الكلمة للقوي وليس للآدمي". لذلك يرى ضرورة للتعاون بين المجتمع الأهلي وقوى الأمن لفرض الاستقرار. مشيراً إلى أن وجهاء العشائر ومتنوريها "مستعدون لتقديم أنفسهم حتى كمخبرين من أجل القضاء على الزعران".
ويعتبر علّاو "أننا كطائفة شيعية تعبنا. هناك عشرة آلاف شاب من شبابنا قتلوا منذ معارك سوريا حتى اليوم. وإذا كنا كعشائر مع المقاومة، فإننا لا نبايعها على خطئها. لسنا ضد التحرير لكن لم نعد نريد أن نكون أدواته".
الشرعية تحضر وسط تباينات حول مسألة التهريب
يؤمّن تحرك العشائر بيئة شعبية مناسبة لتعزيز القوة الشرعية في المنطقة، ترجمت بإصرار الجيش اللبناني على حماية الحدود في هذه المنطقة والرد المباشر على مصادر النيران بالسلاح الشرعي. إلا أن المطلوب وفقاً لأبناء المنطقة الانطلاق جدياً بدرس خرائط الحدود ووضعها على طاولة البحث العلمي لحقوق الملكيات. تداركاً لما قد ينجم عن الهوة التي كبرت بين مكونات المجتمع على طرفي الحدود بعد سقوط نظام بشار الأسد.
هذه المطالب الموحدة لعشائر المنطقة، تبدو محفوفة في المقابل بتباينات شاسعة في نظرة المجتمع إلى عمليات التهريب التي اتخذت طابعاً منظماً، خصوصاً خلال الأعوام التي رافقت الأحداث في سوريا. فسطوة "حزب الله" على المناطق الحدودية، جعلت الأمر يتخطى التجارة الفردية إلى أعمال عصابات، كُشف عنها من خلال إعلان الإدارة العسكرية في سوريا عن مداهمة مصانع للكبتاغون ومخازن للأسلحة تركزت على الجانب السوري من الحدود بمباركة من أدوات المحور الإيراني.
وتتسع هذه التباينات مع عدم إقرار مناصري "حزب الله" بهذه الارتكابات، بل يعتبرون أن إدارة النظام السوري الجديد تتحرك بناء لأجندة عالمية تحاول أن تحاصر "حزب الله" وتغلق منافذ إمداداته دعما لإسرائيل.
إمارات تهريب جديدة؟
مع أن لا "حزب الله" ولا الإدارة الجديدة لسوريا يبدوان في معرض فتح جبهة معارك جديدة في هذه الناحية من الحدود، إلا أن خشية أبناء المنطقة كما يعربون "من العناصر غير المنضبطة القادرة على توريط المناطق وعشائرها".
وإذا كانوا يعتبرون أن ما حصل في الأسبوع الماضي لم يكن سوى محاولة للاستيلاء على مكاسب التهريب، فلا يستبعدون المخارج لإيجاد تسويات تؤمن التعاون بين تجار الحدود على الطرفين، خصوصاً أن الجانب السوري لا يبدي نية حتى الآن سوى بوقف التهريب "المسيّس"، وهو يبقي أبواب تهريب المحروقات والأشخاص مفتوحة. بل يرى البعض في تحرك الهيئة في المناطق المتاخمة للهرمل، محاولة لسحب هذا الامتياز الذي تمتع به أبناء المنطقة، تمهيداً لاستيلاد إمارات تهريب جديدة، بدأت ملامح بعضها تظهر على مقربة من بوابة مشاريع القاع، حيث البيئة على طرفي الحدود متناغمة تماماً.
مطر والأمن وقائي
يشكو رئيس بلدية القاع بشير مطر منذ أعوام من أمر واقع شاذ ولد في منطقة مشاريع القاع جراء تمدد العمران غير الشرعي إليها، معرباً "عن توجسه من الإصرار على إبقاء الحدود فلتانة من جهة هذه المشاريع". ويقول إن "الجيش موجود وبقوة، لكن الجيش وحده لا يمكن أن يفعل شيئاً". معتبراً "أن عدم التنسيق بين الأجهزة منسق للتنصل من المسؤولية". بينما المسألة برأيه بحاجة إلى بحث في العمق، والمطلوب أمن استراتيجي ووقائي أبعد من رد الفعل الذي يترجم عند وقوع أي حدث أو جريمة. وإلا ستبقى هذه الحدود بوابة لتدخلات ومشاكل دائمة نستجرها عبر الحدود".
ويعتبر مطر "أنه يجب الاستفادة من الواقع الحدودي لمنطقة بعلبك الهرمل لإنماء المنطقة من خلال مشاريع متكاملة، لا يمكن أن تبقى المنطقة محتلة من عصابات السرقة وتهريب المازوت والمخدرات، والمطلوب أن يخضع الجميع للقانون. ويجب احترام كل الحقوق ومن بينها الحق بالمياه والأرض. والاستضعاف غير مسموح لا بالسلاح ولا بالعدد". من هنا يوجه مطر الدعوة "لمن يستقوي اليوم بالواقع الجديد كي يهدأ". محذراً من "أننا لم نقبل بالاستقواء سابقاً ولن نقبل به اليوم، كما أننا لا نريد حماية أحد سوى الدولة، فنحن أيضاً لا نعادي أحداً ولا نريد لأحد أن يعادينا".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك