فيما ينتظر اللبنانيون ولادة الحكومة الجديدة، حاول وزير الطاقة وليد فياض تمرير «تهريبة» الاستراتيجية الوطنية للمياه 2024-2035 بمرسوم وزاري، وهي ليست إلا امتداداً لاستراتيجية رئيس التيار، الوزير السابق، جبران باسيل المقرة عام 2012، والتي غيرت وجهة استثمار المياه في لبنان: من الثروة الحقيقية للمياه الجوفية إلى صفقات السدود الفاشلة والمشبوهة بهدر ملايين الدولارات. وها هو فياض يقيم «أموات» مشاريع السدود من القبور، بدءاً من سد بسري، مدرجاً إياه «كأولوية» في الاستراتيجية الجديدة - ناسفاً الضغط الشعبي الذي أدى لإسقاطه - ودوماً بهدف تضخيم الميزانية التي بلغت قرابة 2 مليار دولار ونصف، كانت قرابة ثلثها على السدود!
الفضيحة الأكبر، هي أن ميزانية هذه الاستراتيجية، لا تشكل إلا ربع "الاستراتيجية المحدثة للمياه 2020-2035"، وميزانيتها 8 مليارات دولار، وهي الأساسية التي أراد الوزير إقرارها، لولا إسقاطها من قبل الجهات المانحة، المطالبة بـ"سياسات إصلاحية جدية"، فكان التعجيل بتوقيع نسخة المليارين ونصف في أيار الماضي، غير "النموذجية" بالنسبة للجهات المانحة، و"النموذجية" نسبة لتيار أمسك 15 عاماً بالسياسة المائية في البلاد، ويريد تمديد سلطته في الوزارة، 11 عاماً جديداً، وبمرسوم وزاريّ!
كمن يعترف بـ"التهريبة"، لم تسلّمنا الوزارة نسختها النهائية الموقعة من الوزير بشكل رسمي إلى اليوم، وكانت المفاجأة أننا لم نكن وحدنا الذين اقتفينا أثرها، "بلا أثر". فوزير الطاقة الملزم بإرسال "مشروع مرسوم السياسة المائية" إلى مجلس الشورى لإبداء الرأي، قبل إرساله إلى الحكومة بهدف إقراره، أرسل كتابه إلى المجلس بالفعل، لكن دون إرفاق الاستراتيجية، وهو ما يضعه المدير العام للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني سامي علوية في خانة "محاولة التذاكي على مجلس الشورى ومجلس الوزراء لتمرير الاستراتيجية من دون الإطلاع عليها، تفادياً لاكتشاف محتواها الكارثيّ".
"نداء الوطن" حصلت على نسختين شبه متطابقتين عن استراتيجية 2024-2035. فماذا في محتواها "الكارثي"؟ وكيف انخفضت من 8 مليارات دولار إلى مليارين ونصف؟ وما علاقة "دويلة" مستشاري الوزير بإعدادها؟ وماذا جاء في كتاب مجلس الشورى رداً على الوزير؟
تعدد الإستراتيجيات: والسدود "ثابتة"
في رحلة التقصي عن الاستراتيجية الموقعة من الوزير فياض، وجدنا مسوّدات "إستراتيجيات" بالجملة، أبرزها "النسخة المحدثة 2020-2035"، وهي استراتيجيته "الحلم" بميزانية تبلغ 8 مليارات دولار، خصصت قرابة ملياري دولار منها، أي ربعها، لبناء 14 سداً، لكنها سقطت بفعل ضغط الجهات المانحة.
عاد الوزير ليعمل على استراتيجية المياه 2024-2035. وزعت نسخة منها في آذار الماضي (تقلصت أوراقها إلى النصف) على جهات معنية بالإطلاع على الاستراتيجية، حصلنا عليها، وميزانيتها 2.3 مليار دولار. وانخفض فيها عدد السدود وفق الاستراتيجية الأخيرة إلى 9 وشكّل تمويلها قرابة مليار دولار، أي قرابة نصف الميزانية!
كما حصلنا على نسخة أخرى، صادرة في شهر أيار، الشهر نفسه الذي وقّع فيه الوزير النسخة النهائية للاستراتيجية، وكانت قد وزعت على الجهات المانحة، وميزانيتها 2.6 مليار دولار، وفروقاتها بسيطة جداً عن نسخة آذار.
تؤكد مستشارة الوزير، سوزي الحويك، أو "عرابة" الاستراتيجية كما يصفونها في الوزارة "أن ميزانية الاستراتيجية المقرة هي قرابة 2.5 مليار دولار، رافضة إرسالها لنا "دون إذن من الوزير".
على الرغم من تقدمنا بكتاب رسمي وفق قانون الحصول على المعلومات، سجلناه في قلم الوزير للاستحصال على نسخة من الاستراتيجية النهائية الموقعة منه، ووعد الوزارة لنا بالحصول عليها في "خلال 24 ساعة"، مرت أكثر من 60 ساعة، ولم نحصل على أثر لتلك الاستراتيجية بشكل رسمي! وهو ما يطرح علامات استفهام أكثر حول السرية المطلقة وانعدام الشفافية، المحاطة باستراتيجية تتحكم بالسياسة المائية لو أقرت، 11 عاماً!
فياض للمانحين: "شو وقفت عليي؟"
"بشخطة قلم"، انتقلت وزارة الطاقة والمياه من الاستراتيجية المحدثة 2020-2035 بميزانية قرابة 8 مليارات دولار إلى استراتيجية 2024-2035 بقرابة 2.5 مليار دولار أي تخلت عن مشاريع بقيمة 5 مليارات دولار ونصف، كمخرج وحيد لضمان موافقة الجهات المانحة في قطاع المياه، على الاستراتيجية، ولو بشكل مبدئي.
لكنّ "شخطة القلم" لم تكن بالأمر السهل على الوزير. في السياق، تنقل مصادر شاركت في إحدى جلسات مناقشة مسودة الاستراتيجية قبل إقرارها، ما جاء على لسان ممثلة إحدى الجهات المانحة، ومضمونه "لم نعد نريد تمويل مشاريع الصيانة والتشغيل operation and maintenance بل نريد تمويل مشاريع مبنية على الاستدامة sustainability". فما كان من الوزير فياض إلا أن أجابها بنبرة المستاء والمستعطِف التمويل في آن: "الاستراتيجية يللي قبلها (استراتيجية باسيل) مولتوها بـ10 مليارات دولار، هيدي مليارين ونص وما بدكن تمولوها؟... إيه ما فينا ننزلا بقى أكتر من هيك!".
على حساب نوعية المياه
قلّص فياض الاستراتيجية من 8 مليارات إلى 2 ونصف، لكن "روحية" الاستراتيجية بقيت ثابتة، مع ترجيح كفة الميزانية للسدود على حساب استخراج المياه الجوفية، وعلى حساب ضمان جودة نوعية المياه التي لم يرصد لها إلا 5 ملايين دولار على مدار 11 عاماً، أي 40 ألف دولار في الشهر فقط، مقسمة بين الوزارة ومؤسسات المياه الأربع!
وهذه وحدها فضيحة في ظل عودة انتشار أوبئة المياه مثل الكوليرا والتهاب الكبد (أ) في السنوات الأخيرة، جراء اختلاط مياه الشرب بمياه الصرف الصحي، كنتيجة لسياسات الهدر في منظومة الصرف الصحي، التي تقدر بمليار دولار.
فهل تعِدنا الوزارة بالمحافظة على نوعية المياه وضمان منع انتقال الأوبئة عبر شراء "الكلور" فقط وضخه في مياه الشرب؟ ثم ماذا عن تلوث نهر الليطاني؟ أيضا ستعالجه الوزارة ببضعة آلاف دولار بينما تنشئ سداً بملايين الدولارات، يكون كسد المسيلحة، "بلا ولا نقطة مي"؟
دويلة "المستشارين"
ولفهم طريقة عمل الوزارة على الاستراتيجية المائية، لا بدّ من فهم استراتيجية تحكم "التيار الوطني الحر" بمفاصل وزارة الطاقة. استراتيجية تختصر بإقصاء كل موظف لا ينتمي للتيار، وإعلاء دور مستشاري الوزير في الوزارة، على حساب موظفيها.
هكذا باتت صورة المستشارة سوزي حويك ومستشار آخر للوزير، تزينان الاستراتيجية إلى جانب صورة الوزير وليد فياض، من دون أي اسم لأي موظف في الوزارة.
باختصار، الحويك هي "مهندسة" الاستراتيجية الوطنية للمياه 2024-2035، ما يكشف تأثير بل استفراد مستشاري الوزير بإعداد السياسة المائية، في ظل تغييب دور وزارات معنية أخرى والمدراء العامين لمؤسسات المياه!
علوية: الاستراتيجية ليست مخططاً توجيهياً!
لا شرعية لأي "استراتيجية للمياه تنتحل صفة المخطط التوجيهي"، من دون مرجعية "الهيئة الوطنية للمياه" التي تبدي رأيها فيه، وبعدها يصار إلى إقراره في مجلس الوزراء بموجب مرسوم حكومي. أما الاستراتيجية المطروحة اليوم، فهي مخالفة لقانون المياه، يقول مدير مصلحة الليطاني سامي علوية.
فالاستراتيجية المقترحة لا تلحظ إنشاء الهيئة الوطنية للمياه التي نص عليها قانون المياه 192/2020 ومن صلب مهامها وضع السياسات الوطنية لقطاع المياه وتحديد الأهداف ودراسة قدرة الدولة على التمويل.
وقد تبين لنا أن الاستراتيجية الحالية مستنسخة عن الإستراتيجية السابقة وأنها مخالفة للأصول المحددة في قانون المياه رقم 192/2020، والتي نصت على أصول إعداد المخطط التوجيهي للمياه ومياه الصرف الصحي، والتي لم تحترمها الوزارة، من هنا، فالاستراتيجية تصبح ساقطة ببعدها كمخطط توجيهي ونرى إقرارها غير قانوني.
أما على مستوى الملاحظات على المضمون بمعزل عن الشكل وقانونيتها، فلم تراع الخطة في تحديثها الأخير، ملاحظات المصلحة الوطنية لنهر الليطاني عليها. والأسوأ، أنها "لم تكتف بعدم احترام دور مؤسسات المياه ومصلحة الليطاني، بل إنها لم تأتِ حتى على ذكر بحيرة القرعون، وهي أكبر مجمع مائي في لبنان، ومصدر أساسي للثروة المائية يشكل 15% من الثروة المائية المستمرة. ولم تأت الاستراتيجية حتى على ذكر مشروع ري الجنوب على منسوب 800 متر، ما يشكك ببياناتها بشكل جوهري".
كما "لم تراع الاستراتيجية مشكلة نوعية المياه في حوض نهر الليطاني والمشاريع الإنشائية في هذا الحوض سواء لرفع التلوث عن المياه أو استثمارها أو وجوب تعزيز معامل توليد الطاقة الكهرومائية التابعة للمصلحة".
ليس هذا وحسب، فالاستراتيجية تعيد تأكيد مركزية القرار وحصره بوزارة الطاقة وإهمال دور مؤسسات المياه، ما يتعارض بشكل كلي مع مبادئ الإدارة الحديثة للمياه والتوجه العالمي للحوكمة وإدارة الأحواض المائية بشكل مستقل والتشارك والتشاور في التخطيط والإدارة من قبل كافة الجهات المعنية.
وهي لا تعدو كونها محاولة احتيال على مجلس الشورى والحكومة لإقرار "هذه البدعة" وإلزام الحكومات المقبلة بسياسة مائية منحرفة. لكن أخطر ما يحذر منه علوية، هو أن يكون تمريرها بمرسوم، يعني إلزام الوزارة بصرف أي منحة أو قرض لقطاع المياه، وفق هذه الاستراتيجية حصراً، والأسوأ، صرف الوزارة كل موازنتها، لتطبيق مرسوم لاستراتيجية كارثية!
مجلس الشورى "يردّ" كتاب الوزير
الاستراتيجية "المفقودة"
نصل إلى الرأي القانوني لمجلس الشورى رقم 167/2023-2024، الذي حصلت "نداء الوطن" على صورة عنه وقضى "بإعادة مشروع المرسوم الذي يرمي إلى إصدار الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه (السياسة المائية)"، المرسل من وزير الطاقة وليد فياض. ولعل سبب ردّ مشروع المرسوم، صادم أكثر من رده!
فقد رأى المجلس أن "الملف الإداري في الوقت الراهن لا يمكّن هذا المجلس من إبداء الرأي بمضمون موضوع مشروع المرسوم المعروض عليه"، بما أنه يتبين أنه "لم يتم إرفاق الاستراتيجية الوطنية، المطلوب إبداء الرأي بشأنها بمشروع المرسوم، والتي تعتبر بحسب مضمون المشروع المشار إليه جزءاً لا يتجزأ منه، إذ يبنى المخطط التوجيهي العام عليها".
وقد أعاد المجلس الملف إلى الوزير، طالباً أن يصار إلى إدراج الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه ضمن قرار إداري مكتمل العناصر، كي يبدي رأيه بشأنه.
الخطير في "مهزلة" عدم إرفاق الاستراتيجية، أنه ربما لا يكون سقط سهواً. هذا ما ترجحه عدة مصادر، تضع هذه السقطة في خانة "محاولة تمرير المرسوم في مجلس الشورى ومجلس الوزراء دون إطلاعهم على مضمون الاستراتيجية".
هذه الفرضية، يعززها مضمون كتاب الوزير، بقوله "نرفق لكم ربطا مشروع المرسوم مع ملحقه وأسبابه الموجبة"، من دون ذكر عبارة "إرفاق الاستراتيجية".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك