كتب عمرو الكبّي في "اللواء":
سقط نظام الأسد في سوريا، ومعه سقط معقل مشروع حلف الأقليات. لطالما كان نظام الأسد منذ قيامه في قلب هذا المشروع الذي هندسه الاستعمار وتركه لوكلائه المحليين لحمايته بعد الاستقلال. منع مشروع حلف الأقليات قيام دولة المواطنة وعرّض دول المنطقة لتدخّل القوى الإقليمية والدولية. اليوم وبعد هذه الخسارة لمشروع حلف الأقليات، هل يستطيع أهل البلاد بناء دولة المواطنة؟
يعتمد مشروع حلف الأقليات على فرضية أساسية وهي ان المنطقة الجغرافية المعروفة ببلاد الشام والعراق يسكنها شعوب تتنافس فيما بينها على الموارد والسلطة. يزعم مروّجي هذا المشروع أن المنطقة تتشكّل من أقليات وليس من مواطنين، وبالتالي يجب تشكيل أنظمة دول المنطقة على أساس طائفي أقلي وليس مدني وطني.
تستند الشرعية في دولة الأقليات على الطوائف، ومؤسسات الدولة بحاجة لتوافق الطوائف، والسلطة تقتسمها الطوائف، والموارد توزع على «زعماء» الطوائف. جعلت دولة الأقليات من الطوائف وسيطا بينها وبين المواطن، فهي دولة من الطوائف ولخدمة الطوائف. وبالتالي أصبحت الطوائف السجن الذي يحتجز المواطن و«زعماء» الطوائف السجّان الحريص على المحافظة على دولة الأقليات الطائفية.
بينما تستند الشرعية في الدولة المدنية على المواطن. فمؤسساتها وجدت لخدمة المواطن، والسلطة خاضعة لرقابة المواطن، والموارد توزع على المواطنين. لا وسيط بين الدولة المدنية والمواطن، فهي دولة المواطنة والمواطن. وبالتالي الدولة المدنية الوطنية تحمي وتحافظ على حريات المواطنين الفردية ومنها حرية المعتقد والانتماء لمجموعات على أنواعها. إلّا ان الحقوق في الدولة المدنية الوطنية هي للمواطن وليست للمجموعات.
سقوط نظام الأسد في سوريا لا يعني انتصار مشروع الدولة المدنية الوطنية تلقائيا. فدولة المواطنة بحاجة لترسيخ مفهوم تقبّل الآخر على اختلافه، ثم تضافر الجهود لبناء الثقة بين المواطنين والعمل معا للتغلّب على العقبات. تقع المسؤولية اليوم على القوى المنتصرة لتأمين البيئة الصحية من أجل إطلاق مشروع بناء الدولة المدنية الوطنية. من هنا عليهم احتضان الجميع وحماية حرماتهم واحترام حقوقهم الفردية بعيدا عن التشفّي والانتقام. إلّا ان ذلك لا يعني عدم الاقتصاص ممن أجرم وظلم على صعيد فردي وليس على صعيد مجموعات عرقية أو مذهبية. كما أن القصاص يجب ان يحصل حصراً عبر مؤسسات الدولة والآليات القانونية. أما من كان فقط مؤيدا أو مناصرا بالرأي والكلمة، فلا اثم عليه ويجب حماية حقه بالاعتقاد والتعبير.
للتغيير الحاصل اليوم في سوريا تداعيات كبرى على الداخل اللبناني. فسقوط مشروع حلف الأقليات في سوريا اضعف هذا المشروع وأركانه في لبنان. فكما ساهم نظام سوريا الأسد بتشويه الدستور اللبناني بعد الحرب الأهلية وحوّل لبنان عن مشروع دولة المواطنة المدنية المنصوص عليها في الدستور إلى دولة الأقليات الطائفية المنهارة حاليا، قد يشكّل التغيير الحاصل في سوريا فرصة للبنانيين بالعودة لدولة المواطنة الدستورية.
شدّد الدستور اللبناني في روحه ومضمونه على مفهوم المواطنة. ولمعالجة الواقع الطائفي الناتج عن الحرب الأهلية، رسم الدستور مسار للابتعاد عن الطائفية نحو المواطنة. حدّد الدستور طوائف بعض الشخصيات المتبوئة لمناصب رسمية. فالدستور اللبناني لا يوزع المناصب على الطوائف كما يعتقد ويمارس الكثير اليوم. إنما المناصب الرسمية هي لكل اللبنانيين. حتى التوزيع المناطقي على النواب هو فقط إجراء انتخابي، بينما كل نائب داخل البرلمان اللبناني يمثل الأمة قاطبة وليس منطقته.
وكذلك الرئاسات، فرئيس الجمهورية هو رئيس لكل لبنان وليس من حصة طائفة، بل ولاعتبارات واقع ما بعد الحرب، نص الدستور ان طائفة رئيس الجمهورية مارونية. وكذلك رئيس مجلس النواب هو لكل لبنان، ولتكن طائفته شيعية. وكذلك رئيس مجلس الوزراء هو لكل لبنان، ولتكن طائفته سنية. كما نص الدستور أيضا على العمل لإلغاء الطائفية السياسية وهو مسار وليس قرار.
بصيغة أخرى، دستورياً، لا دور للطوائف بتعيين أو اختيار الرئاسات والنواب، كما لا يحق لأصحاب المناصب التمييز بين اللبنانيين على أساس طائفي أو مناطقي. فآلية الانتخاب والتعيين لا تلحظ أي دور للطوائف كمجموعات. إلّا ان الممارسة السياسية منذ نهاية الحرب الأهلية إلى اليوم والتي رعاها النظام السوري الزائل، شوّهت الدستور ورسّخت مفهوم دولة الأقليات الطائفية وأبعدت لبنان عن دولة المواطنة المدنية الحديثة. فتشكّلت طبقة سياسية تزعمت طوائفها وحوّلت المواطنين اللبنانيين لرعايا عائلة «الزعيم» على غرار اقطاع القرون الوسطى. فأصبحت مؤسسات الدولة والإدارة الخدماتية غنيمة لمحاصصة طائفية، فتحوّلت الديمقراطية المدنية الحديثة المرجوة إلى ديمقراطية توافقية طائفية ممسوخة على غرار أنماط أخرى كالديمقراطيات الاشتراكية الشعبية.
أضعف التغيير في سوريا نظام الأقليات الطائفي في لبنان. وبالتالي هنالك فرصة جدّية نحو تأسيس دولة المواطنة المدنية عبر التمسّك بروح ونص الدستور والابتعاد عن التفسيرات الشاذة والممارسات الشخصانية التي أدّت لانهيار مؤسسات الدولة والاقتصاد اللبناني. كما على من اكتوى بنار الظلم والتهميش الناتج عن دولة الأقليات الطائفية أن يبادر اليوم لهدم منطق نظام الظالم للعمل من أجل دولة المواطنة المدنية العادلة. انها فرصة إقليمية للعمل من أجل مستقبل أفضل فلا عذر بعد اليوم.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك