كتب نقولا ناصيف في "الأخبار":
في القرار 1701 مفهوم ضمني للإسناد يتركز على دعم القوة الدولية في الجنوب الجيش اللبناني في مهمة حفظ الأمن في بقعة جنوب نهر الليطاني. منذ تشرين الأول 2023 للإسناد - ونظيره الإشغال - مفهوم مختلف لكنه خطر. ها هو يدقّ أخيراً أبواب حرب مفتوحة ليست في حاجة الى طلقة مسدس.
ما حدث الثلاثاء والأربعاء وبلغ ذروته الجمعة، قَلَبَ صفحة ما كان قد بدأ في 8 تشرين الأول 2023 بانخراط حزب الله في جبهة إسناد لحماس وغزة، كي تؤذن الصفحة الجديدة بمرحلة أقرب ما تكون الى الحرب المفتوحة بينه وبين إسرائيل. المرحلة الجديدة هذه، رغم التصعيد غير المسبوق طوال نهار السبت حتى صباح الأحد كردّ فعل متبادل بين حزب الله وإسرائيل على ما رافق الأيام الأربعة المنصرمة، أسقطت أو تكاد خطوط تماس جبهة الجنوب. أضحت إسرائيل كلها، كما لبنان كله، جزءاً لا يتجزأ من الحرب المفتوحة غير المعلنة رسمياً بينهما. تعززها المواقف المدلاة الموحية بأنهما ذاهبان اليها لا عائدان منها.تنبئ بالواقع الجديد بضعة معطيات عكستها التطورات الأخيرة وتفسيرها:
أولها، الانتقال من حرب الاستنزاف الى المواجهة الفعلية، وانتقال حزب الله أيضاً من جبهة الإشغال والإسناد - وإن لمّا يزل يتمسّك بالمصطلح - الى الحرب المفتوحة. كلاهما حتى الآن يتفاداها ظاهراً، على أنهما يديرانها كذلك تدريجاً. أتعبت الجبهة الشمالية الدولة العبرية بأن شتّتت سكانها وجيشها فقفزت من فوق قواعد الاشتباك للوصول الى قلب قيادة الحزب.
ثانيها، أدمجت إسرائيل الحرب الأمنية في الداخل اللبناني بالحرب العسكرية عند الخط الأزرق، مبرزة تفوّقها التقني وتمكّنها من اغتيال مرة بعد أخرى قادة ميدانيين كبار لحزب الله. ما لم يسعها الحصول عليه عند الحدود الجنوبية، رغم وحشية غاراتها وتدميرها البلدات وقتل المدنيين، أكسبها إياه نجاحها في إلغاء القادة هؤلاء على نحو يتيح لها الاعتقاد بقدرتها على تفكيك بنية القيادة والإمرة في رأس هرم الحزب، توطئة لفرضها عليه إطفاء جبهة الجنوب نهائياً، ومن ثم إعادته الى القرار 1701.
تزامنت محاولات الإلغاء مع إجراء غير مسبوق في الحروب التقليدية كما المحدثة أعطى درساً بات يستحق المراجعة، هو وصولها الى البنية الوسطى في الآلة العسكرية للحزب، وهي القوى اللوجستية المعنية بآليات دعم المقاتلين وتأمين التواصل بهم بعيداً من الجبهة. فما أقدمت عليه الثلاثاء والأربعاء، شلُّها ما يقارب مئات من رجال البنية الوسطى بانفجار أجهزة الاتصالات بأجسادهم وخروجهم من الآلة العسكرية، مع الاعتقاد الجازم سلفاً في تنظيم عقائدي ديني متماسك بأنهم مدرّبون للقتال على الجبهات، يستعان بهم تبعاً للوظيفة المزدوجة المنوطة بهم. حيث كسبت إسرائيل، كمنت ثغرة سوء تقدير حزب الله والخطأ البشري الفادح المُرتكب حيال إيصال الأجهزة تلك الى الضحايا المصابين، في حرب مفتوحة مع عدو وقدرات تقنية وتكنولوجية غير متكافئة.
ما فعلته إسرائيل مع حزب الله هو نفسه ما أقدمت عليه بين عقدَيِ السبعينيات والتسعينيات، وصولاً الى مطلع الألفية الثالثة بتصفيتها القادة المؤسسين لمنظمة التحرير الفلسطينية حيث كانوا، في عقر دارهم المحسوب أنه آمن، في لبنان وإيطاليا وتونس وفرنسا وقبرص واليونان، انتهاءً بآخرهم ياسر عرفات المشتبه في اغتيالها إياه بتسميمه. كذلك في المرحلة التالية مع صعود قادة حماس، في موازاة استمرار هجمات جيشها خارجاً وداخلاً. ليس الاغتيال لدى الأجيال الإسرائيلية المتعاقبة منذ عام 1948 سوى أحد أسلحة المواجهة الحتمية الدائمة الملازمة لمهمات جيشها النظامي. خبره حزب الله بدوره أكثر من مرة في العقود الأخيرة وفي حرب غزة مراراً.
ثالثها، مسارعة حزب الله الى الرد في الداخل الإسرائيلي حتى حيفا بصواريخ أدخل استخدامها للمرة الأولى، رمى منها الى تأكيد صلابة بنيته العسكرية وإمرة القيادة رغم خسارة فادحة اعترف بها، هي اغتيال جماعي لأركان قوة الرضوان. تالياً أعاد الاعتبار، على الأقل بالنسبة إليه، الى معادلة سابقة هي داخل في مقابل داخل من جهة، وإقران وصول إسرائيل الى قلب قيادته بوصوله هو الى أبعد منشآت صناعاتها العسكرية والتكنولوجية المهمة، على أنها تضع حيفا في واقع ما أضحى عليه شمال إسرائيل من جهة ثانية.
رابعها، كما لو أن شروط الحرب المفتوحة غير المعلنة باتت مستكملة ولم يعد يعوزها سوى شرارة إشعالها، ثم أتى كلام نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم بعد ظهر أمس يؤكد مجدداً الاستعداد للاحتمالات العسكرية كلها، فإن ثمة حقائق دولية لم يعد في الإمكان إغفالها. مخاوف العواصم الكبرى المعنية بحرب غزة ودقّها ناقوس الخطر من اندلاع حرب إقليمية لا تريدها. المفارقة في ما تدل عليه الحقائق الجديدة مذ فجرت إسرائيل أجهزة اتصالات بأجساد مدنيين لبنانيين بعيداً من ساح الحرب، أن الإدانة الدولية تُصوَّب على الدولة العبرية على ارتكابها جرائم جماعية دونما تمكّن حزب الله من استقطاب رأي عام عربي ودولي الى جانبه، والتعاطف مع استهداف قادته ومدنييه. لم يؤتَ موقفاً عربياً متعاطفاً معه مثلما لم يحظَ بموقف عربي جارى تبرير انخراطه في حرب غزة.
ليس التنديد الدولي بإسرائيل الحقيقة الجديدة الوحيدة. ثمة ما ناقضها هو ابتهاج بالهجوم الأمني الإسرائيلي واغتيال المسؤول العسكري الأول إبراهيم عقيل، عبّر عنه الأميركيون على أن قتله استجاب لـ«العدالة الدولية» بحكم أنه مطلوب دولياً يتقاطع الأميركيون والإسرائيليون على إلغائه لدوره في تفجير السفارة الأميركية ووحدة المارينز عام 1983.
أضف قلقاً من نوع آخر يعني الخارج بدرجة عالية ويتخطى بكثير مخاوف الداخل اللبناني، مؤداه سابقة إسرائيل تفجير أجهزة اتصالات تسببت - كما ستتسبب - باضطراب أسواق الشركات المنتجة السلعة هذه وصدقيتها والتعامل معها من جراء تسلل الاستخبارات الإسرائيلية الى تفخيخها في مرحلة غامضة يصعب الكشف عنها: تفخيخها لدى الشركة المصنِّعة أم لدى الشركة المصدِّرة، أم ثمة وسيط بينهما لتفادي ظهور حزب الله، المعاقب دولياً والموصوف منظمة إرهابية، في مظهر أنه الشاري؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك