أعلن متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة خلال حفل تأبين الاديب الياس خوري في كنيسة دير دخول السيدة في الاشرفية: "أحبائي، «لا يخاف الموت سوى من يسلك في رخاوة السيرة. مصلوبية الحياة في المسيح كافية لتعتقنا من مخافة الموت، فلا تخف من الموت بل من الخطيئة». هذا ما قاله القديس يوحنا الذهبي الفم. كذلك سمعنا قول الرب يسوع في الإنجيل: «ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله» (لو 9: 62)".
وأضاف: "يتكامل قول القديس يوحنا الذهبي الفم مع قول الرب يسوع، إذ إن الفلاح مثلا، الذي يبدأ بحراثة أرضه، لا يتراخى في العمل بل يثبت حتى الإنتهاء منه، مهما طال الوقت. هكذا كل إنسان مؤمن بالله، يلتزم الله ما طال العمر، من دون إظهار أي تراخ، لكي يصل إلى مبتغاه بعد الإنتقال من هذه الحياة الفانية إلى الأخرى، الأبدية".
وتابع: "ينسحب هذا المنطق على كل ملتزم، مؤمن بقضية عادلة محقة، إذ متى بدأ بالعمل والدفاع عنها، لا يتراجع قبل بلوغ هدفه. هذا ما نقرأه في سفر العدد: «أي رجل نذر نذرا للرب أو حلف حلفا فألزم نفسه شيئا، فلا يخلف قوله، بل يعمل بحسب كل ما خرج من فمه (30: 2)".
وقال: "الرجل في الكتاب المقدس ليس الذكر، بل كل إنسان يلتزم حتى النهاية بكلمته، فلا يحيد عنها مهما غلا الثمن. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: «من يمتلك تفكيرا حكيما، ويوجه دفة حياته على رجاء الخيرات العتيدة، عندما يرى أمامه شخصا مائتا لن يعتبر الموت موتا حقا (أي نهاية كل شيء)، ولن يحزن على من يموتون، لأنه يفكر في الأكاليل التي يمنحها الله. وإذا كان الزارع لا يأسف ولا يتجهم إذا ما رأى القمح منتشرا في حقله، هكذا البار الذي ينجح في تحقيق مفاخر الفضيلة، ويحيا يوميا، متطلعا باشتياق إلى ملكوت الله، لن يصاب بالضيق مثل معظم البشر إذا ما أتاه الموت، ولن ينزعج أو يضطرب لأنه يعرف أن الموت بالنسبة للذين عاشوا حياة الفضيلة هو انتقال ورحلة إلى مكان أفضل وحياة أرقى، وطريق يقود إلى الأكاليل التي يمنحها الله".
وأضاف: "حبيبنا الراقد الياس، الذي نودعه الآن جسديا، قال: ما يستحق أن نموت من أجله هو ما نريد أن نعيشه. هذا القول ينطبق على كل شيء في الحياة الأرضية، فإذا ما طبق على الحياة الروحية فإنه يوصل إلى الملكوت السماوي. الشهداء في المسيحية ماتوا من أجل إيمانهم بالله، فعاشوا في الله عندما انتقلوا من الأرض، وأصبحوا قديسين. كذلك شهداء الوطن الحقيقيون، الذين آمنوا بوطنهم، وماتوا من أجل أن يحيا هو لا غيره، تزهر دماؤهم انتصارا وحرية ووعيا وثقافة لمواطنيهم. يقول الياس: «لولا الشهداء لم نكن نحن هنا، لولا الشهداء لما استطعتم النوم في منازلكم...لولا الشهداء لأخرجونا من ديننا وإيماننا".
وتابع: "الياس خوري قاص، روائي، كاتب مسرحي، مثقف، مفكر، مناضل، ملتزم قضايا الإنسان، لكنه قبل كل شيء مؤمن. كان محبا للمسيح. والمسيح حاضر في حياته وتأملاته وكتاباته، بصورة ظاهرة غالبا، ومضمرة أحيانا".
واردف: "في مقال له عن المعاناة في المرض والألم كتب: «لن أعود بكم إلى آلام المسيح». وكأنه عاد إليها في قلبه! وكثيرا ما عبر عن ذهوله أمام استطاعة المسيح «الشفاف» أن يعيش في عالم الخيانات والخيبات. كان المسيح غريبا فاحتضن الغرباء. كذلك كان الراهب المسيحي في روايته «مملكة الغرباء".
وقال: "منذ أشهر كتب: «المسيحيون تغيروا في الكثير من الأماكن، أما يسوع الناصري فكان ولا يزال شمس العدل، كما يسمونه في صلوات الميلاد في الكنيسة الشرقية. أزال قسوة العدالة بالمحبة والغفران». كما كتب: «المسيح هو جرحنا، وهو جرح الله في اللاهوت المسيحي".
وأضاف: "شغف بالطقوس الأرثوذكسية، بخدم أسبوع الآلام والهجمة وعيد مار الياس، وواظب على المشاركة فيها. أما غرفته فكانت مليئة بالأيقونات. أحب بيروت حبا كبيرا وقال عند انفجار 4 آب: «كل زجاج بيروت سقط في عيني / بيروت لست بقايا / تعيدينا إلى الأول / وفي الأول تتعمدين بدم الضحايا".
وتابع: "هذا الإنسان نشر كلمته كالقمح، فأزهرت في كل العالم بلغات مختلفة، وأثمرت في فكر كل من تلقاها، وقلبه. وعى الياس أن الله قد خلق الإنسان على صورته ومثاله. حرا خلقه. هذا يعني أن الحرية عطية إلهية، فإذا به مدافع شرس عنها وعن الديمقراطية، وكل قضية عادلة ومحقة. لذلك أحب فلسطين حبا كبيرا لم يفارقه طوال حياته. كانت قضيتها في قلب كتابته، ولم تغب عنها يوما، في ظل النكبة المستمرة. ليست فلسطين عنده أرضا أو تاريخا ضائعا وحسب، بل هي قضية إنسانية كبرى. وهي لكذلك".
وقال: "لأنه آمن بالكلمة، بابن الله الكلمة، لم يفقد يوما أمله ورجاءه بأن الكلمة ستفعل فعلها ولو بعد حين. الكلمة لا تموت، وإن طمست أو بدت كأنها ماتت، لا بد أن تقوم مجددا، لأن «الموت ليس سببا كافيا للنسيان» حسب تعبير عزيزنا الياس. تنطلق غالبية رواياته من موت ما لتحكي قصة الحياة وأحلام الناس البسطاء وآلامهم. لم يكن الياس يقبل فكرة الظلم والإستبداد، لهذا كان دائم اللقيا بالناس، والشباب منهم خصوصاً، ليساعدهم على التحرر من التبعية ومن ظلم المستعبدين".
وأضاف: "لم ير في الموت ظلما، بل بلاغة، إذ قال: «ربما كانت بلاغة الموت الكبرى أن أبطاله لا يستطيعون روايته». هذا ما تعنيه الكنيسة عندما ترتل: «فليكن ذكرهم مؤبدا»، لأن الراقد يغادرنا جسديا ولا نعود نعرف عنه شيئا إلى حين اللقيا مجددا في الحياة الثانية، لكننا نستطيع تخليد الراقد عبر نشر المبادئ التي أرساها في حياته ودافع عنها مناضلا حتى الرمق الأخير. كيف يكون ذكر حبيبنا الياس مؤبدا؟ عندما نعيش المحبة التي جعل لها مكانا رحبا في كتاباته، وعندما نستمر في نضالنا من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة وكرامة الإنسان، وعندما نثق بأن الكلمة الحقة لا تعود فارغة، بل تؤثر وتثمر إلى مئة ضعف".
وختم: "لقد قام المسيح الكلمة من بين الأموات وحررنا من الخطيئة. رجاؤنا أن كلمة الياس سيتردد صداها في الضمائر الحية حتى تقوم بهم نحو الحرية الحقيقية الممنوحة لنا من الله".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك