كتب نقولا ناصيف في "الأخبار":
ليس استثناءً مَصَاب التيار الوطني الحر. قبله بعقود لحق بالأحزاب المعمّرة ما يشابه وما هو أسوأ، مع أحزاب الكتائب والوطنيين الأحرار والكتلة الوطنية والحزب السوري القومي الاجتماعي وحركة أمل عندما نشأ منها حزب الله. ما هو مماثل انقلابات داخلية فيها كما شهدت القوات اللبنانية لم تنتهِ سلماً. ليست هذه إلا بنت صراع تعايش الأجيال نفسها وتنابذها أو تعاقبها
من المبكر التحدّث عن المستقبل السياسي للنواب الثلاثة مغادري التيار الوطني الحر بالفصل أو طوعاً، الياس بوصعب وآلان عون وسيمون أبي رميا، ومَن قد يلتحق بهم. مع أن موعد الانتخابات النيابية المقبلة متأخر نظرياً إلى سنة وتسعة أشهر، وحملاتها تباشر قبل سنة، المُقدَّر من الآن تمديد ولاية البرلمان الحالي في ظل استمرار شغور رئاسي أضحى أبعد من المحسوب، وانقسام على القانون الحالي للانتخاب الأكثر استعصاء المضي فيه للمرة الثالثة أكثر من الانتخابات نفسها.الأساس في ما سيُعنى به التيار الوطني الحر في المرحلة المقبلة، علاقته بحزب الله. ليس خافياً أنه، كحزب القوات اللبنانية، في حال لا يُحسد عليها مع السنّة والدروز أضف المسيحيين الآخرين موزّعين خصوماً وأعداء. طبّع أخيراً علاقته بالرئيس نبيه برّي، فيما الحزب الآخر في مواجهة متساوية مع الثنائي الشيعي.
تدريجاً تراجعت كتلة التيار الوطني الحر وحلفائه من 21 نائباً إلى 17 نائباً حتى الآن على الأقل، بخروج محمد يحيى ثم جورج بوشكيان فالثلاثة الأخيرين. ذلك سيتيح المغالاة والمباهاة ـ وهو الواقع ـ أن حزب القوات اللبنانية صار الكتلة الأكثر تمثيلاً للمسيحيين. سيقال ما هو أكثر، إن التيار أضحى أيضاً أقل تمثيلاً إذا كان لا بد من الأخذ في الاعتبار أن ستة من نوابه الـ17 الحاليين، ساهم الصوت الشيعي في انتخابهم بالاقتراع مباشرة لهم، أو بتقاطع مع حلفائه في دوائر تتأثر به كزحلة والبقاع الغربي وبعلبك ـ الهرمل وعكار وبيروت الأولى.
أما ما بات في الإمكان توقّع ترداده من الآن فصاعداً، فيدور من حول بضع ملاحظات:
1 ـ ليس الانتحار السياسي وراء تفاقم الخلافات بين النواب الثلاثة ورئيس التيار النائب جبران باسيل سواء بمعاندتهم إياه أو رفض الاحتكام إلى النظام الداخلي أو الجهر بإرادة استئثاره بالسلطة. ما لم يكن في الإمكان توقّع أن يفعلوه قبل مدة طويلة من الآن، مذ نشب التباعد وفي خلال ولاية الرئيس ميشال عون وما قبلها حتى، تجرّأوا عليه أخيراً في ظل وجود المؤسّس. عنى ذلك ضمناً تحميل الرئيس السابق جزءاً من مسؤولية إخراجهم لمجرد اكتفائه بالإصغاء إلى وجهة نظر باسيل ودعمها وإطلاق يده في قطع رؤوس مؤسّسين أوائل للتيار. بعض ما ليس في الخفاء أن لعناد هؤلاء سنداً قد يحملهم في وقت لاحق على الذهاب إلى إعلان تيار رديف، يجمع رفاقهم الأوائل بدورهم المُبعدين قبل وقت طويل. تقاطَعَ إخراج أو خروج بوصعب وعون وأبي رميا مع حدث واحد عُزي إليه أنه أحد الأسباب المباشرة لما يقال إنه تأديبهم: التصويت لرئيس تيار المردة سليمان فرنجية في جلسة 14 حزيران 2023.
2 ـ منذ أشهر يُسمع رئيس التيار يردّد في بعض لقاءات أو اجتماعات يعقدها أن علاقته بحزب الله «على القطعة». بادئ ذي بدء لم يهضم عبارة «القطعة» على أنها تعني قالب كاتو، وفضّل «الملف». إلا أنه درج لاحقاً عليها. الكلام نفسه يُسمع في أوساط حزب الله أن علاقتهم بباسيل صارت بدورها «على القطعة». من المبالغ الاعتقاد بأن ما يُباعد بين الفريقين خلافات سياسية عميقة. آخرها المعلوم تباين الرأي من «وحدة الساحات». هامشي في تحالف عميق أرسياه عام 2006 أوصل عون الرئيس إلى قصر بعبدا بعد عقد من الزمن. واقع الأمر أن الخلاف انفجر منذ ما قبل نهاية الولاية صيف 2022 في اجتماع الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله برئيس التيار الوطني الحر لمناقشة دعم ترشيح فرنجية لخلافة عون. كمنت خيبة نصرالله في رفض باسيل تعهّدات قطعها له من حول عبارتين: قال له أن يكفل له فرنجية، فردّ بأن فرنجية «عند برّي» ولن يوفّر الغطاء المسيحي لانتخابه. مذَّاك تزايدت أسباب النفور بين الحليفين وتطورت إلى خلاف فإلى ما يشبه قطيعة. أسوأ ما رافقها في جلسة 14 حزيران أن يُصوّت التيار وحزب القوات اللبنانية، متضامنين في تقاطع مقلق للحزب، للمرشح الخصم لفرنجية هو الوزير السابق جهاد أزعور.
3 ـ لا يزال يُسمع في حزب الله أن التيار الوطني الحر حليفه، وإلى جانبه في كل حين عندما يواجه حزب القوات اللبنانية. في المقابل يحرص على الظهور في مظهر أنه لا يتدخّل في خلافات أو انقسامات داخل التيار. ليس سرّاً أن باسيل مهدّد وضعيف يسهل التعاون معه منه قوياً داخل تياره أشعر حزب الله أكثر من مرة تصرّفه كطاووس. النواب الثلاثة المغادرون يتقاطعون بدورهم مع حزب الله: تقرّب غير عادي لبوصعب من رئيس البرلمان، فيما دائرتا عون وأبي رميا في بعبدا وجبيل في مرمى الحزب. ذلك ما يفترض ـ وإن غلّب كفة رئيس التيار ـ إبقاء التواصل معهم لا مقاطعتهم حتماً لشأن لا صلة له به، إلى حين موعد الانتخابات النيابية المقبلة.
4 ـ يكاد يكون العامل الأكثر أهمية في حسبان حزب الله. مذ اندلعت حرب غزة وتداعياتها في الجنوب وانخراطه فيها، لم تعد انتخابات رئاسة الجمهورية ابنة الحسابات المحلية واحتساب الأصوات والحاجة إلى التغطية التمثيلية الميثاقية التي كانت رافقت الاستحقاق طوال سنة كاملة، من تشرين الأول 2022 بوقوع الشغور إلى تشرين الأول 2023 بانفجار «طوفان الأقصى». آنذاك كمنت المعضلة في الحاجة إلى التصويت المسيحي الأكثر تمثيلاً لمَن رام الثنائي الشيعي انتخابه ضمناً، وهو فرنجية، قبل ترشيحه العلني في آذار 2023، وحالت دونه الكتلتان المسيحيتان الكبريان. الآن أضحت الرئاسة جزءاً في أي تسوية يُفترض إبرامها بعد وقف النار في غزة، طرفها اللبناني الرئيسي حزب الله فيما يقتضي أن يكون طرفُها الإقليمي والدولي الآخر هم الأميركيين المعنيين بإعادة الاستقرار إلى الحدود الشمالية لإسرائيل بتطبيق القرار 1701 الذي يتقاطع عنده الطرفان. لم يكتم الحزب في الأشهر الأخيرة قلة اهتمامه بالاستحقاق الرئاسي ولا عدّه، كالجنوب وحرب غزة، إحدى أولوياته. على نحو مماثل لم تعد تعني له الكثير ممانعة باسيل مرشح الثنائي الشيعي.
عندما يتحدث برّي عن ان لا انتخاب رئيس للجمهورية قبل الحوار، وأن الحوار وحده يُحضِر إلى القاعة 86 نائباً على الأقل هم شرط الحوار والانتخاب معاً، يُفهَم مغزى التعويل على تسوية أوسع نطاقاً من استحقاق محلي هو أحد بنودها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك