كتب ماهر سلامة في "الأخبار":
«إن لبنان یستورد سنویاً 1179 سلعة، یتم تصنیع مثیل لها في لبنان، وإن سنة 2022 وحدها تمّ فيها استیراد ما قيمته 5.4 ملیارات دولار من هذه السلع. هذه العبارة التي وردت في إحصاءات الدليل الصناعي، تشير بوضوح إلى أن الإنتاج الصناعي يكاد يكون غير معترف به من قبل السلطة التي ترسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية في لبنان. وما يعزّز هذه الفرضية، أنه في موازنة 2022 أدرجت المادة 74 التي ترمي إلى فرض رسم جمركي لمدة خمس سنوات نسبته 10% على السلع والبضائع التي تُستورد رغم وجود مثيل محلي لها، وعلى السلع والبضائع المصنّفة «فاخرة»، لكن السلطات المختصّة في وزارة الصناعة والاقتصاد، لا تزال تتعثّر في تطبيق هذا الرسم الذي لا يخدم مصالحها. في الواقع، قد تكون الصناعة إحدى فرص تخفيف حاجة لبنان إلى العملات الأجنبية. فهناك منتجات تُصنع في لبنان إنما لبنان يسمح باستيراد مثيلها من الخارج، أي إنه يسمح باستيراد منتجات منافسة لما ينتجه محلياً، رغم أن حماية هذه المنتجات، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، يمكن أن تُسهم في خفض فاتورة الاستيراد بالعملات الصعبة. لكنّ السياسة الصناعية لم تكن قط جزءاً من رؤية الحكومات المتعاقبة. وهذا الأمر كان واضحاً بعد نهاية الحرب الأهلية، من خلال نموذج الاقتصاد السياسي الذي اعتُمد منذ مطلع التسعينيات، والذي قضى بتغييب الإنفاق الاستثماري في البنية التحتية وتعزيز النمط الاستهلاكي المدعوم بسعر صرف ثابت وبتوجيه التمويل نحو المنتجات المرتبطة بهذا النمط. هذا النموذج هو أصل الانهيار الذي انفجر في عام 2019 وأطلق أزمة نقدية ومصرفية ما زالت مفاعيلها مستمرة إلى اليوم. وإلى جانب ذلك، عُقدت اتفاقيات تجارية مع الدول العربية ومع الاتحاد الأوروبي سهّلت استيراد بضائعها وقلّصت القدرة التنافسية للإنتاج المحلّي.
بحسب إحصاءات الدلیل الصناعي (دلیل الصادرات والمؤسسات الصناعیة اللبنانیة)، «فإن لبنان یستورد سنویاً 1179 سلعة، یتم تصنیع مثیل لها في لبنان، وإن سنة 2022 وحدها تمّ استیراد فيها ما قيمته 5.4 ملیارات دولار من هذه السلع». هذا الرقم يعبّر عن فرصة توفير ما نسبته 30% من الناتج المحلّي من العملات الأجنبية. يمكن لهذا الوفر أن يُحسّن وضع العملة المحليّة ويسهم باستقرار قيمتها بشكل قابل للاستمرارية، وبالتالي يعيد بعضاً من الثقة التي فقدتها. وحتى لو رأى مصرف لبنان مصلحة في إبقاء القيمة السوقية لليرة على ما هو عليه، كان يمكن لهذا الوفر بالعملات الأجنبية أن يتحوّل إلى احتياطات إضافية للمركزي، من خلال محاولة الأخير الحفاظ على سعر صرف الدولار أمام الليرة مرتفعاً عن طريق شراء الدولارات من السوق، وبالتالي زيادة الطلب على الدولار.
وبحسب الإحصاءات المذكورة، أكبر قطاع يمكن تحقيق الوفر من خلاله هو قطاع المنتجات الغذائية، التي يستورد لبنان نحو 238 سلعة منها، يتم تصنيعها محلياً، وتبلغ قيمة استيراد هذه السلع نحو 1.4 مليار دولار. أما ثاني أكبر قطاع فهو المجوهرات، الذي يُستورد منه نحو 17 سلعة تُصنع محلياً وتبلغ قيمة استيرادها نحو 1.37 مليار دولار. أما القطاعات الأخرى فتضم صناعة الآلات والصناعات الكيميائية والصناعات المنجمية غير المعدنية والمفروشات وغيرها.
لا يعني هذا الأمر منع استيراد هذه السلع، لكن يمكن للسياسات الصناعية والتجارية أن تُسهم بتقوية المنتج المحلّي على حساب المنتج المستورد، وبالتالي تُسهم في جعله أكثر تنافسية في السوق المحلية. قد يكون هذا الأمر عن طريق الرسوم الجمركية، وهو يُعتبر تدخّلاً حمائياً مباشراً. أو قد يكون عن طريق الدعم غير المباشر لهذه الصناعات، مثل خفض الأكلاف التشغيلية (الطاقة مثلاً) ودعم استيراد المواد الأولية، وهو ما يُعطي الصناعيين فرصة لتحسين النوعية وخفض الأسعار وبالتالي التنافس بشكل أكبر.
لم تتدخّل الحكومات المتعاقبة لتحسين الوضع الصناعي، رغم أنها تتباهى اليوم بالتحسّن البسيط الذي شهده القطاع الصناعي بسبب العوامل التي أنتجتها الأزمة. لكن سياسة المتفرّج كانت نتائجها سيئة. فقد شهدت التجارة اللبنانية الخارجية تراجعاً في المنتجات التي يتميّز إنتاجها في لبنان بالميزة التفاضلية. ففي التجارة الدولية، يمكن أن تتمتع دولة مثل لبنان بميزة تفاضلية للسلعة عندما تتمكن من إنتاجها بكفاءة عالية (باستخدام موارد أقل) مقارنة بالدول الأخرى، حتى لو كانت الدول الأخرى قادرة على إنتاجها مقابل تكلفة أقل (الميزة المطلقة). وتسمح هذه الكفاءة للبنان ببيع المنتج بسعر أقل أو بهامش ربح أعلى. بيّنت دراسة أعدّها مركز «مبادرة سياسات الغد» أنه في سنوات الأزمة، انخفض عدد المنتجات المُصدّرة ذات الميزة التفاضلية من 216 منتجاً في عام 2018 إلى 203 منتجات في عام 2022، أي بتراجع نسبته 6%. ما يعني أن الخصائص الصناعية الموجودة التي يمكن أن يُعتمد عليها لتحسين الوضع الصناعي قابلة للاندثار مع تعامل الحكومة اللبنانية مع الوضع بشكل المتفرّج.
وحتى عندما قامت السلطة السياسية ببعض الإجراءات القانونية التي يمكن أن تحمي المنتجات المحليّة، لم تقم بتطبيقها. ففي موازنة 2022 أُقرّت المادة 74 التي ترمي إلى حماية الصناعات اللبنانية عبر فرض رسم جمركي لمدة خمس سنوات نسبته 10% على السلع والبضائع التي تُستورد رغم وجود مثيل محلي لها، وعلى السلع والبضائع المصنّفة «فاخرة». وفي حين أن هذا الإجراء أتى، نظرياً، في إطار حماية القطاعات الإنتاجية المحلية وتعزيز قدراتها التنافسية مع السلع المستوردة المعفاة من الرسوم بموجب اتفاقيات تجارية، فإنه بعد مرور سنتين على إقراره، لم يُطبّق حرف واحد منه. سبب ذلك يعود إلى أمرين: أولهما أن القرار لا يتضمن معايير واضحة للتطبيق وتصنيف السلع الفاخرة، وثانيهما أن الاتحاد الأوروبي مارس ضغوطاً واسعة لمنع تطبيقه. فقد تحرّكت سفيرة الاتحاد الأوروبي فور إقرار المادة 74 وشروع وزارة الصناعة في إعداد لائحة بالسلع المفترض حمايتها، وزارت رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لتبلغه امتعاض بلادها من هذه الرسوم، مشيرة إلى أن الاتفاقية التجارية التي وقّعها الطرفان في عام 2006، ستتعرّض لضرر بسبب تطبيق هذا القانون. كان لها ما أرادت؛ سريعاً أبلغ ميقاتي من يعنيهم الأمر بضرورة تجاوز هذه المادة واعداً السفيرة بأن الرسوم الإضافية على الاستيراد لن تُطبق ما دام هو موجوداً في السراي. وكان لافتاً أن وزير الصناعة جورج بوشكيان لم يعد مستعجلاً في عرض لائحة السلع المشمولة بالحماية الجمركية التي أعدّها منذ آب 2023، على مجلس الوزراء.
الممانعة المحلية بالتوازي مع الممانعة الأجنبية، تؤكّد وجود ممانعة هيكل الاقتصاد السياسي في البلد لأي تغيير حتى لو أتى ذلك في مصلحة الاقتصاد الكلّي. فهذا الاقتصاد السياسي القائم على الخدمات والتجارة، والذي تنخرط فيه النخبة السياسية بشكل واضح، لا تدخل في مصلحته الإجراءات التي تُسهم في تحسين وضع الإنتاج، لأن استبدال الاستيراد يعني الخسارة الحتمية له.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك