شدّد شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي أبي المنى على أن لبنان وطن أبدي كادَ الغرباء عن وطنيتِهم أن يوصلوه إلى حافَّة اليأس والفشل، بما يُمعنون فيه من المبارَزة في الولاءات واستجلابِ الوصايات، شرقاً وغرباً، وما يَضعونه من عوائقَ أمامَ تطبيق الدستور وبناء المؤسسات، في ما نحن بحاجة إلى التفاهم والحوار والتضامن وتعزيز الثقة فيما بيننا لمواجهة الواقع الصعب الذي يعيشه لبنان.
كلام سماحة شيخ العقل جاء خلال رعايته والبطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي افتتاح المؤتمر الاغترابي الاول للتنمية المحلية، الذي أقيم في مركز كارلوس سليم الرياضي والمجتمعي في حمانا، بحضور وزير التربية والتعليم العالي القاضي عباس الحلبي، والنواب: هادي أبو الحسن، آلان عون وريشار قيومجيان وعدد كبير من الشخصيات والفاعليات الروحية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاهلية، الى جانب وفد مرافق لسماحة شيخ العقل من المشايخ وأعضاء في المجلس المذهبي.
شيخ العقل
وألقى الشيخ أبي المنى بالمناسبة كلمة، قائلاً:
صاحبَ الغبطة، أصحابَ السيادة والفضيلة، أصحابَ المعالي والسعادة، السادة والسيدات الكرام، أبناءَ حمانا وضيوفَها الأعزَّاء، أيُّها الأحبّة...
اسمحوا لي بدايةً أن أشكرَ المبادرين الداعين إلى هذا اللقاء الجامعِ، مثنياً على ما سبق من كلمات، ومنوِّهاً بالشراكة المرتجاة بين أبناء البلدة المقيمين والمغتربين كنموذجٍ للشراكة التي نأمل أن تتحقَّق في جميع قرانا وعلى امتداد الجبل والوطن، وهو ما نعتزُّ برعايته دائماً وصاحبَ الغبطة، انطلاقاً ممَّا تعاهدنا عليه من شراكةٍ في ما بيننا تُرسِّخُ المصالحة وتُثبِّتُ دعائمَ العيش الواحد في الجبل الذي هو قلبُ لبنانَ النابضُ أخوَّةً ومحبَّةً ووطنيّة".
اضاف: إنَّ هذه المبادرةَ الجامعة بين الاغتراب والمجتمع المحلي،والهادفة إلى التنمية واحتضانِ الشباب الواعدِ بما لديه من طاقاتٍ وبما يحلُمُ به من إقامةِ مشاريعَ تنمويةٍ مُنتِجة، تأتي مكمّلةً لما بدأنا به على مستوى الطائفة،وعلى مستوى الشراكة الدرزية المسيحية في هذا الجبل،ولما أعددناه في هذا الاتّجاه منذ أشهر، وما نحن بصدد إعلانه قريباً، كميثاقِ وفاق، "بين أهلِ العقل والتوحيد وأهلِ النور والمحبة ، انطلاقاً من أرض المصالحة والعيش الواحد في جبل الإباء والأصالة؛ جبلِ لبنان، الذي لطالما كان منذ القِدم محطَّ أنظارِ الأباطرة والملوك وذوي الشأن،من شرقٍ وغرب، يَنشُدون في ذُراهُ العليةِ أبراجَ تقرُّبٍ واستشراف، وفي أوديته الساحرة صوامعَ نُسكٍ شفيفٍ تُحاكي أفئدةَ الطبيعة، ويستوحُون في هذه وتلك شموسَ الحقِّ وأنهارَ الحياة، إشراقاً وبهاءً وتدفُّقاً وعطاء"، وذلك كما جاء في نصّ الميثاق المقترَحِ للتبنّي والمصادقة من قِبلِنا، باسم ما نُمثِّلُ من عائلاتٍ روحيّةٍ مُشبَعةٍ بالإيمانِ والأخوَّةِ والقيَمِ الوطنية والإرثِ الاجتماعيِّ المشترَك".
وتابع: "لقد شهد لبنانُ، وقلبُه الجبلُ، مدارجَ سَنيّةً للتسبيح والتمجيد، ومرتقَياتٍ بهيّةً للحرية والانعتاق، بُذِلتْ في معارجِها المُهَج، لتُروى قداسةُ الأرض بالدماء، فيزدهي شموخُه برفعة الانتماء إلى وطنٍ رساليٍّ يَجمعُ بين سماوياتِ الأديان وتسامياتِ الإنسان، بالحوار الحضاري المؤدّي الى الالتقاء الأخوي والديني في إطار الانسانيةِ الجامع الشامل.
من هذا المنطلَق، وبالنظر الى تاريخ مشترَك بين المكوِّنَين الأساسيَّين في هذا الجبل: التوحيديِّ الإسلاميّ، والمسيحيّ المشرقيِّ، فإننا أكَّدنا ونؤكِّدُ على جملةٍ من الأفكار التي تشكِّلُ مُنطلَقاتٍ تأسيسيةً لتعزيز العيش التشاركيّ الواحد، وهي تعودُ إلى زمن "إمارة الجبل" وما كرَّستْه في العهدَين التنوخي والمعني من تعاونٍ وترابطٍ بين أبناء جبلِ لبنانَ المسيحيين والموحِّدين "الدروز"، وما أرستْه من إنماءٍ ذي طابَعٍ زراعيٍّ وحِرَفيٍّ وجماليّ، بدت معه بلادُ لبنانَ قُبالةَ المتوسِّط مساكبَ خيرٍ وفير، ومنابعَ سخاءٍ وكفايةٍ وعطاء، وربوعَ عيشٍ واحدٍ جامع، ومنابتَ تطوُّرٍ وإبداع يَفيد منها الشرقُ والغربُ على حدٍّ سواء".
صاحبَ الغبطة، أيُّها الأحبّة،
إننا، إذ ننظرُ إلى هذا التاريخ نظرةَ اعتزازٍ وأمل، فإننا نؤكِّدُ اهتمامَنا بتمتين البُنيان الاقتصادي للجبل وإعادةِالتماسك الاجتماعي المشترك، وذلك باعتماد "بِرّ المشارَكة" في ترسيخ دعائم التطوير الاجتماعي، وتحقيق الثبات في الأرض، والالتصاق المعنوي والثقافي بالكَيان الروحي، وصون التراثِ الوطنيِّ العريق والحَدّ من التدهور المعيشي والهجرة، داخلياً وخارجياً، ومن التفكُّك الأُسَري وتشتُّتِ الإقامة واهتزازِ الكرامة الإنسانية بسبب الفَقر والفاقة والعوَز، والمساهمة في تعزيز صمود الأهالي المقيمين المتمسِّكين بحرصهم التاريخي على الأرض والعرض، وفي تشجيع العودة لمن فَرَضت عليهم ظروفُ الحربِ المغادرةَ القسرية، وفي احتضانِ الأعمال الحِرَفية والزراعية والاستثمارات السياحية والبيئية، وتنمية القدرات الفردية التي ينبغي أن تكونَ المُنطلَقَ الرئيسيَّ للتنمية الريفية وتثبيتِ الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في القرى الجبلية، فإننا واثقون بأنّ شبابَنا قادرون معاً أن يُعيدوا إحياءَ تلك الروحِ التعاونيةِ البنّاءةِالواعية والراقية لأجدادنا الميامين، الذين اتّسموا بالوِدادِوالتسامح والمحبة والإخاء والإرادة ِالطيّبة.
ومضى سماحته يقول: "إنَّنا مهتمُّون ومَعنيُّون بالحفاظ على إرث المحبة الذي يُميِّزُ جبلَ لبنان، وبتكريس الشراكة التاريخية، اقتصادياً واجتماعياً، ليكونَ هذا الجبلُ الشامخُ الأصيل نموذجاً أرقى لكلِّ لبنان، يَحجُّ إليه العالَمُ القريبُ والبعيد، لما فيه من جمالُ الطبيعة والإبداعِ وغنى الأصالةِ والتنوُّعِ. وما ميثاقُ الوفاقِ الذي نتطلَّع إليه، وما يُرافقُه من اتفاقاتِ تعاون تركِّز على استثمار العقاراتِ الوقفية العائدة لعائلاتِنا الروحية، سوى سبيلٍ روحيٍّ لدعم هذه الشراكة التنموية والمساهمة في ترسيخ العيش الواحد وتدعيمِه، آملينَ أن تحظى الأفكارُ والمشاريعُ المطروحةُ بثقةِ المجتمع ودعمِ الدولة ومساهمةِ أصحابِ القدُرات والكفاءات من اللبنانيين المقيمين والمغتربين، وأن تكونَ حافزاً لأُولي الشأن في بلادِنا لتحمُّلِ المسؤولية ومعالجة قضايا الشعب واستثمار طاقات أبنائه الموزَّعة هنا وهناك، والسعي لاسترداد ثقة الناسِ والعالَمِ بلبنانَ قبلَ فواتِ الأوان".
وقال سماحته: "من حمَّانا، من المتن، ومن الجبل، نُؤكّد مع القيادات السياسية المخلصة وبصوتٍ واحدٍ ورغبةٍ عارمة وإرادةٍ موحَّدة، على أهميّة التشبُّثِ بالأرض والتاريخ، وعلى التكاملِ بين أبنائنا الراسخين هنا وأولئك المنتشرين هنا وهناك، حفاظاً على وطنِ الآباء والأجداد، واعتزازاً بفَرادة المجتمع اللبناني المتنوّعِ بأديانه وطاقاته وثقافاته، وعلى الأخصّ مجتمعِ الجبل، وتعاوناً في نشر ثقافة التكامل في الاختلاف والقوّة في الائتلاف، متطلَّعين للعمل معاً على إقامة مشاريعَ تنموية في أكثرَ من مجال، وإلى إيجاد آليات تنسيق وتعاون مبنيةٍ على دراسات جدوى اقتصاديّة وبيئيّة، وعلى نيّة توثيق روح الأخوّة والتعاون بيننا ونشرِها في مجتمعنا وبين أبنائنا الموحِّدين والمسيحيين، وحثّ مكوّنات المجتمع الأخرى على تبنّيها والعمل بموجبها.
إنّنا إذ نُبارك مؤتمرَكم هذا، فإننا نرى فيه خطوةً متقدِّمةتُضافُ إلى خطواتٍ تأسيسيّةٍ قطعناها ونأملُ أن نتابعَها معاً في مشروع الشراكة الوطنية والمصالحة الاقتصادية التي نتوخَّاها في رحلة بناء مجتمعٍ لبنانيٍّ طليعيّ، تبدأُ من أرضِ الجبلِ وواقعِه المميَّز لتنطلقَ نحو مساحةٍ وطنيةٍ أوسعَ أفقاً وامتداداً، ومستقبلٍ أكثرَ تسامحاً وانفتاحاً، وعملٍ أعمقَ مشاركةً وتجذّراً بالأرض والوطن.
أخيراً، وليس آخراً، إنّنا نرى في مثل هذه المبادرات التي ستكون موضعَ نقاشٍ في مؤتمرِكم، وفي مثل هذه الأفكار والمواثيق التي نسعى إلى تحقيقها، كُوَّةً من نورٍ وأمل في وطنٍ أبديّ كاد الغرباءُ عن وطنيَّتِهم أن يوصلوه إلى حافَّة اليأس والفشل، بما يُمعنون فيه من المبارَزة في الولاءات واستجلابِ الوصايات، شرقاً وغرباً، وما يَضعونه من عوائقَ أمامَ تطبيق الدستور وبناء المؤسسات، في ما نحن بحاجةٍ إلى التفاهم والحوار والتضامن وتعزيز الثقة فيما بيننا لمواجهة الواقع الصعب الذي يعيشُه لبنان، في ظلِّ وجود كيانٍ صهيونيٍّ معتدٍ غاصبٍ، وروحٍ إجراميّة متمادية لا تُقيم وزناً للمبادئ الإنسانية وللقرارات الدولية، وفي ظلِّ الأطماع المتعدِّدة بخيرات بلادِنا، ونموِّ الأزمات المتنقِّلة في الجوار، وتفاقُمِ أزمات النزوح واللجوء واستباحةِ سيادة الدولة وطاقاتِها، بما يُلقي بثقلِه على المجتمع اللبناني بأسرِه، وما يدعونا للتنبُّه والنهوض من واقعِ الغفلةِ والمشاحناتِ والعنتريات الكلامية والاستفزازات المتبادَلة إلى واقعيّةِ الرؤية المستقبلية المحصَّنة بالأملِ والعمل وإرادة الحياة.
وختم سماحة شيخ العقل: "أيُّها المتنيُّون، أيُّها الجبليُّون، أيُّها اللبنانيُّون،أيُّها الشباب، ثِقوا بأن لبنانَكم لن يموتَ طالما أنتم مؤمنون به، وبأنَّكم قادرون على إنقاذه متى ما كرّستُم طاقاتِكم لإنمائه وإحيائه.. ثِقوا بأنّكم معاً، مسلمين ومسيحيين، مقيمين ومغتربين، تشكِّلون باتّحادِكم قوّةً إنمائيَّة وطنيةً اقتصاديةً رافعة، فكونوا له العقلَ الراجحَ والقلبَ النابضَ، ولا تتراجعوا، وفّقكم الله وبارك مساعيكم لما فيه خيرُ الناسِ وخيرُ الوطن، ولنبقَ معاً مردِّدين من هذا الجبل:
أيا أخي، كلُّنـا في اللهِ، يَجمعُنـا
سرُّ الحياةِ، وما يَعنيـكَ يَعنيني
إنْ كان وجهُك بالإيمـانِ مختلِفاً
فالعقلُ، حقّاً، بما يُوصيكَ يُوصيني
معاً نعيشُ، معـاً نَبني لنا وطناً،
يَحميكَ حُبّي، وحبٌّ منك يَحميني.
كلمات
كما ألقيت بالمناسبة كلمات لكل من: البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، الوزير عباس الحلبي
المطرانين انطوان ابو نجم وسلوان موسي، د. فيليب سالم وميشال سعد.
وكان سماحة شيخ العقل زار والوفد المرافق قبل المناسبة المحامي المقدّم كامل مزهر في منزله في حمانا، بحضور عضو اللقاء الديموقراطي النائب هادي أبو الحسن، ورئيس الأركان الأسبق اللواء شوقي المصري رئيس لجنة التواصل في المجلس المذهبي، الشيخ عماد فرج رئيس اللجنة الثقافية، العميد المتقاعد بسام أبو الحسن رئيس اللجنة الإدارية، المختار نديم بو شاهين ومشايخ حمانا وأقارب وأصدقاء. وكانت للمحامي مزهر كلمة ترحيبية معبّرة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك