قبل زيارة الرئيس العماد جوزاف عون إلى المملكة العربية السعودية في 3 آذار الحالي كانت طريق لبنان إلى الرياض تمر عادة في دمشق، وكانت طريق الرياض إلى بيروت تمر أيضاً عبر دمشق. منذ العام 2011 تقريباً انقطعت السبل بين بيروت والرياض. ولم تعد هناك طرقات آمنة للعلاقة عندما بدأت السيطرة الإيرانية على لبنان تحلّ محلّ السيطرة السورية، وعندما صار النظام السوري أيضاً تحت رحمة دعم إيران و"حزب الله". فهل آن الأوان لعودة آمنة بعد انحسار هذه السيطرة وهل يمكن أن تزول الموانع الأمنية؟
لم تخرج السعودية من لبنان بالسياسة بل بالأمن. الهاجس الأمني كان يحكم هذه العلاقة بين بيروت والرياض. عندما ذهب الرئيس العماد ميشال عون إلى السعودية في 9 كانون الأول 2017 بعد انتخابه رئيساً في 31 تشرين الأول 2016، من دون مباركة المملكة، لم يكن يحمل معه الهم الأمني والسياسي. كانت زيارة رفع عتب ومناورة للقول إنه بدأ زياراته الخارجية بالمملكة طلباً للدعم. ولكنّ هذا الدعم لم يكن من الممكن أن يأتي من دون ضمانات أمنية وسياسية. تلك الزيارة كانت بعد تعليق المملكة في شباط برنامج مساعدات عسكرية للجيش اللبناني بقيمة 3 مليارات دولار، على خلفية ما اعتبرتها "مواقف عدائية" من بيروت ناتجة عن خضوع لبنان لـ "حزب الله". وكانت السعودية أعلنت في آذار 2016 أن "الحزب" "تنظيم إرهابي"، ودعت رعاياها إلى مغادرة لبنان.
لم يكد عون يخرج من المملكة حتى أكّد في تصريحات صحافية من مصر على أنّ سلاح "حزب الله" ضروري وشرعي ودائم حتى زوال دولة إسرائيل، وأنّ الجيش اللبناني عاجز عن الدفاع عن لبنان. كان هذا الكلام كافياً لنسف أهداف الزيارة من أساسها وبقاء المملكة بعيدة عن لبنان، وبقاء "حزب الله" مسيطراً على عهد ميشال عون ومهاجماً المملكة، خصوصاً مع احتدام الحرب في سوريا وتدخله العسكري لدعم نظام بشار الأسد.
بين كارلوس وأنيس النقاش
قبل ميشال عون كانت عهود ما قبل العام 2005 تعتبر أن الوجود العسكري السوري في لبنان ضروري وشرعي وموقت. هذا الموقت انتهى في نيسان 2005 بثمن كبير بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الذي كان اغتيالاً للدور السعودي في لبنان تأكيداً على أنّ الأمن بالنسبة إلى المملكة يأتي قبل السياسة. والهاجس الأمني كان بدأ من لبنان ضد المملكة منذ العام 1975.
في 21 كانون الأول 1975 قاد الفنزويلي كارلوس عملية خطف وزراء نفط منظمة أوبيك في فيينا ونقلهم إلى الجزائر وكان من بينهم وزير النفط السعودي أحمد زكي اليماني. كان كارلوس والمجموعة المشاركة ينفذون العملية التي خطط لها قائد العمليات الخارجية في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" وديع حداد وكان الهدف إذلال دولتي السعودية وإيران باعتبارهما متحالفتين مع الولايات المتحدة الأميركية وتموّلان جهات معادية للفلسطينيين في لبنان مع بداية الحرب، والحصول في المقابل بعد العملية على مساعدات مادية كنتيجة لعملية الخطف والابتزاز والارهاب تجنباً لتكرار مثل هذه العملية.
لم يكن كارلوس وحده قائداً للعملية. كان معه لبناني اسمه خالد. بقيت هويته مجهولة حتى اختار هو أن يكشف عنها بعد اعتقال السلطات الفرنسية لكارلوس في عملية أمنية معقدة في السودان عام 1994. وخلال التحقيقات معه لم يفصح عن هوية رفاقه ولكن خالد قرر أن يفعل ذلك من خلال حديث صحافي كشف فيه أنه أنيس النقاش.
في مقابلات صحافية لاحقة أعلن النقاش أنه كان في حركة "فتح" وأنه كان شارك في العملية ليضع ضوابط لها وأنّ الهدف كان اختراق جماعة وديع حداد. ولكنّ النقاش لم يكن مجرّد اسم مرّ في تلك المرحلة وشارك في تلك العملية وانتهى دوره. لأنّه انخرط لاحقاً في عمليات لخدمة الجمهورية الإسلامية في إيران من خلال مشاركته في محاولة اغتيال آخر رئيس وزراء إيراني، قبل عودة الإمام الخميني إلى إيران، شاهبور باختيار في باريس عام 1980 وقد اعتقلته السلطات الفرنسية.
كان النقاش ترك حركة "فتح" إثر اجتياح إسرائيل للبنان عام 1978، والتحق بتشكيلات الثورة الإيرانية عقب انتصارها عام 1979 وأسّس مجموعات مقاتلة في جنوب لبنان وزعم أنّه وضع مشروع تأسيس الحرس الثوري الإيراني. حُكِم عليه في فرنسا بالسجن المؤبد وأُفرِج عنه عام 1990 بعفو رئاسي مقابل إطلاق عدد من الرهائن الفرنسيين في لبنان كان خطفهم "حزب الله".
مطاردة أمنية للمملكة
لم تلعب السعودية أدواراً أمنية في لبنان بل كانت ضحية هذه الأدوار التي نفّذها "حزب الله" ضدّها. مدخلها إلى العلاقة مع الدولة اللبنانية كانت سياسية واقتصادية وسياحية. وكانت دائماً تتدخّل بهدف مساعدة الدولة اللبنانية على القيام والنهوض من جديد. عام 1976 كانت المملكة وراء قرار إنهاء الحرب وتشكيل "قوات الردع العربية" التي شاركت فيها بقوة رمزية. ولكن هذه المشاركة انتهت بسبب الحرب التي خاضها النظام السوري في لبنان ضد حكم الرئيس الياس سركيس و"القوات اللبنانية" والجيش اللبناني. وعام 1989 كانت وراء اتفاق الطائف الذي أمّن مرة ثانية عملية الخروج من الحرب. كانت البوابة السورية معبراً إلزامياً لدخول المملكة إلى لبنان بعد اغتيال الرئيس رينيه معوض الذي كان يُعتبر رئيس تسوية الطائف الأقرب إلى المملكة، بينما كان انتخاب الرئيس الياس الهرواي خلفاً له إعلاناً عن الانقلاب على هذه التسوية.
مرّة جديدة كان الأمن هو الملعب الذي يوجع المملكة في لبنان مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005. كان الرجل يعتبر تقاطعاً سياسياً واقتصادياً بين لبنان وسوريا والمملكة. ولكن عندما شعر "حزب الله" مع النظامين السوري والإيراني أنه يمكن أن يشكل نقطة تحوّل في الوضع الداخلي في لبنان بعد صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي اتَّخذوا القرار باغتياله.
حاول الملك عبدالله إعطاء فرصة لبشّار الأسد في لبنان من خلال مرافقته في زيارة بيروت في 30 تموز 2010 للقاء الرئيس ميشال سليمان. ولكن المحاولة انهارت نتيجة عدم ابتعاد الأسد عن محور إيران واندلاع الثورة السورية في آذار 2011. اتهم محور إيران ودمشق و"حزب الله" المملكة بدعم الثورة والعمل على إسقاط نظام الأسد، وبدأوا العمل الأمني ضدها في لبنان، الأمر الذي أدّى إلى إلغاء القرار السعودي بدعم الجيش اللبناني بالسلاح بصفقة كانت عقدت مع باريس بقيمة 3 مليارات دولار. واستتبع هذا القرار بطلب مغادرة الرعايا السعوديين لبنان ومنع استيراد المنتوجات اللبنانية بعد تكرار عمليات تهريب المخدرات إلى المملكة وتهديد السفارة السعودية والسفير في بيروت.
انقلاب المقاييس
مع زيارة الرئيس العماد جوزاف عون إلى المملكة يمكن انتظار تبدل المعطيات الأمنية والسياسية والاقتصادية. حيث أنّها تختلف كلياً مع زيارة الرئيس ميشال عون. فانتخاب عون الثاني كان برعاية وضغط من المملكة. وعون الثاني شدّد على أن الأمن في لبنان مهمة الدولة والقوى الشرعية وأفهم الإيرانيين أنّ هناك حدوداً لتدخّلهم في لبنان، وأنّ لبنان لا يمكن أن يبقى ساحة لحروب الآخرين. وهو ذهب إلى المملكة حاملاً هدفاً أساسياً من أجل إعادة صياغة العلاقة التاريخية بين البلدين وإعادتها إلى طبيعتها، وهو ما تنتظره المملكة التي تريد أن تعود الدولة اللبنانية سيدة قرارها. هذه العلاقة تُبنى اليوم على خلفية ما حاولت أن تفعله المملكة عام 1976 وعام 1989 في محاولة إنقاذ للدولة اللبنانية من دون أن يكون هناك أيّ تهديد أمني لأنّ الأمن تبقى له الأولية، وبعده يأتي الاستقرار السياسي والدعم الاقتصادي من أجل بدء عملية عودة لبنان من جهنم ومن حال الانهيار بعيداً عن سيطرة "حزب الله" ووصاية إيران على الدولة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك