كتب ريمون مارون - مركز الشرق الأوسط للأبحاث والدراسات الاستراتيجية Meirss
في خضم التحولات الإقليمية والدولية التي شهدها لبنان والمنطقة في الآونة الأخيرة، يُثار اليوم سؤال مصيري حول قدرة حزب الله، بما يمثله من نموذج لوجود عسكري أيديولوجي عابر للحدود، يعكس مأزق هذه الثنائية بوضوح. المقال الذي نناقشه هنا يتناول مأساة الحزب، حيث يظهر التناقض بين طموحه المستمر للهيمنة وقدرته الفعلية على التكيف مع الواقع الجديد.
- بين الماضي والحاضر: تغيّر قواعد اللعبة
بعد حرب تموز 2006، تمكن الحزب من تقديم نفسه كقوة عسكرية هائلة، متجاوزًا القرار 1701 الذي كان يهدف إلى ضبط الأوضاع على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية. لكن يبدو أن قواعد اللعبة تغيرت. المجتمع الدولي، الذي اكتفى سابقًا بقرارات دون متابعة صارمة، اعتمد هذه المرة سياسة تنفيذية مختلفة، فرضت قيودًا حقيقية على قدرة الحزب في استعادة مواقعه. هذا التحول، المتمثل في التزام دولي بتنفيذ القرارات على أرض الواقع، كشف محدودية الحزب وأفقده أوراقه التقليدية التي لطالما استثمرها في ترسيخ سلطته.
- الثمن الباهظ للحرب: الخسارة البشرية والسياسية
إذا كانت حرب تموز قد ألحقت بالحزب أضرارًا جسيمة لكنها أبقته فاعلًا، فإن حرب تشرين الأخيرة دفعت الثمن إلى مستويات غير مسبوقة. مئات القتلى وآلاف الجرحى من الصفوف الأمامية للحزب، انهيار شبه كامل لبنية القيادة، وتدمير ما تبقى من بنيته العسكرية واللوجستية. أكثر من ذلك، فقد أدى سقوط النظام السوري إلى قطع شريانه الإيراني، لتتحول دائرته الإقليمية من شبكة دعم إلى حصار.
ورغم كل هذه الخسائر، فإن الحزب لا يزال متمسكًا بخطابه القديم حول المقاومة والهيمنة، غير أن هذا الخطاب بات مكشوفًا ومجوفًا أمام الرأي العام. التصريحات الأخيرة، التي تعترف ضمناً بانكشاف معلوماتي وعسكري أمام إسرائيل، أظهرت هشاشة موقف الحزب، وحولت الشعارات القديمة إلى بروبغندا شعبية لا اكثر .
- الانكشاف الداخلي: أزمة الشرعية الشعبية
لم يعد الحزب يمتلك الشرعية الشعبية التي كانت تمنحه حرية المناورة. المجتمع اللبناني، بتنوعه الطائفي والسياسي، بات يدرك أن مشروع الحزب عائق أمام قيام الدولة وترسيخ الاستقرار. والمجتمع اللبناني بات على قناعة بأن الحزب يقف في وجه تطلعاته نحو بناء دولة فعلية ذات سيادة.
المفارقة أن الحزب، الذي لطالما استخدم "المقاومة" ذريعة لتعزيز نفوذه، بات يواجه اتهامًا مباشرًا بأنه السبب الرئيسي في الانهيار الذي يعاني منه لبنان. الشعارات التي كان يرددها حول "إلقاء إسرائيل في البحر" أو "منع الطيران الإسرائيلي" أصبحت مادة تهكمية، خاصة عندما يصرح مسؤولوه بعجزهم أمام الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحديثة.
- الحصار الإقليمي والدولي: عزلة غير مسبوقة
العزلة الإقليمية والدولية التي يواجهها الحزب اليوم غير مسبوقة. سقوط نظام الأسد، الذي كان أحد أبرز حلفائه، أغلق الجسر البري بين إيران ولبنان، فيما أدى التوتر الإقليمي إلى خنق خطوط الإمداد البحرية والجوية. محليًا، فقد الحزب القدرة على تكرار مشاهد الهيمنة التي مارسها في الماضي، سواء باحتلال بيروت في 2008 أو بإظهار قوته من خلال القمصان السوداء في 2011.
- الانتهاء السياسي: حقيقة أم وهم؟
ما يثير الاهتمام في هذا التحليل هو السؤال حول ما إذا كان الحزب قد انتهى فعلاً كما يزعم البعض. صحيح أن الحزب يواجه اليوم عزلة دولية، فقدان الحلفاء، وانهيار داخلي، إلا أن التجارب التاريخية تشير إلى قدرة القوى العقائدية على التكيف وإعادة التموضع. لكن مع ذلك، يبدو أن الظروف التي يواجهها الحزب اليوم مختلفة جذريًا، وتفرض عليه معادلة جديدة، قد لا تكون في صالحه.
- بين رجاء الدولة وظل الماضي
إن استعادة لبنان لدولته المنشودة تمر عبر فك الارتباط مع منطق الدويلة. الحزب، الذي أصبح محاصرًا داخليًا وخارجيًا، يواجه اختبارًا وجوديًا يتطلب إما مراجعة شاملة لمساره وإما استمرارًا في العناد الذي لن يقود إلا إلى مزيد من العزلة والانهيار.
اليوم، يعيش اللبنانيون بين رجاء الأرض، حيث يسعون لبناء دولة حقيقية، ورجاء السماء، الذي يلهمهم للتمسك بالقيم العليا في مواجهة الفوضى. لكن هل يتعلم الحزب الدرس، أم يصر على البقاء رهين مشروعه الذي تجاوزته الظروف؟ الإجابة ستحدد مستقبل لبنان كله.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك