كتب ريمون مارون:
في لحظة فارقة من تاريخ لبنان، أطل الرئيس الجديد بخطابٍ حمل في طياته أكثر من مجرد كلمات؛ كان إعلانًا واضحًا لبدء معركة بناء الدولة الحقيقية، كبديل جذري عن مفهوم الدويلة الذي أرخت بظلاله الثقيلة على البلاد لعقود. حمل الخطاب نبرة تتجاوز الحماسة التقليدية لرؤساء الجمهورية، ليكون بيانًا فلسفيًا وسياسيًا يُعيد رسم خطوط الصراع بين مشروع الدولة ومشروع الدويلة.
تُختصر فكرة الدولة في قدرتها على احتكار السلاح وبسط سلطتها على كامل أراضيها، وهو ما أعلنه الرئيس بصراحة في حديثه عن "حق الدولة في حمل السلاح فقط". هذا الإعلان ليس مجرد موقف سياسي، بل هو إرساء لفلسفة تُواجه تلك التي أبقت لبنان أسيراً لقوى موازية تنمو على ضعف المؤسسات. الدويلة ليست مجرد سلاح غير شرعي، بل منظومة فساد ومحسوبيات تستند إلى منطق فائض القوة و الهيمنة لتقويض القانون. لذا، كان تأكيد الرئيس على حوكمة عادلة وسيادة القانون إشارة واضحة إلى أن الدولة اللبنانية لن تكون رهينة لأي مشروع يخدم أجندات اقليمية خارجية.
خطاب الرئيس حمل وعداً حاسماً بإصلاح القضاء، الذي شكّل لعقود العمود الفقري لحماية منظومة الفساد. استقلالية القضاء ليست مجرد مطلب شعبي، بل هي شرط أساسي لبناء دولة قادرة على فرض هيبتها وكسب ثقة مواطنيها. تعهّد الرئيس بإقرار قانون لاستقلال القضاء وإجراء تشكيلات قضائية على أسس الكفاءة والنزاهة، يعكس رغبة واضحة في إنهاء زمن الحصانات والمحسوبيات الذي مكّن الدويلة من العبث بالدولة.
كرجل عسكري، يُدرك الرئيس جوزف عون أن الجيش هو العمود الفقري لأي دولة تسعى للسيادة. لذا، كان إعلانه عن تبنّي عقيدة قتالية دفاعية للجيش خطوة رمزية لإعادة الدولة إلى موقعها الطبيعي كحامية وحيدة للأرض والشعب. الاحتكام إلى الدستور كمرجعية للحروب والدفاع عن الوطن يُسقط كل الذرائع التي لطالما استخدمت لشرعنة السلاح خارج إطار الدولة.
منذ سنوات، أصبح الفراغ السياسي أداةً استراتيجية بيد قوى الدويلة التي تعمل على تعطيل مؤسسات الدولة لتحقيق مصالحها. خطاب الرئيس جاء ليكسر هذه المعادلة، معلناً مرحلة جديدة من العمل السياسي ترتكز على تشكيل حكومة شراكة لا خصومة، وممارسة الصلاحيات الرئاسية بروح المسؤولية الوطنية. إنه التزام واضح بسد الفجوات التي استغلتها قوى الدويلة لتعزيز نفوذها.
السيادة ليست فقط احتكار السلاح أو القضاء على الفساد، بل هي استقلال القرار الوطني. من هنا، جاءت دعوة الرئيس إلى سياسة خارجية قائمة على الاحترام المتبادل، وتحقيق مصالح لبنان بعيداً عن أي ولاءات إقليمية أو دولية. لبنان الذي يفتح يديه للجميع، لكنه يرفض أن يكون ساحة لتصفية الحسابات أو منصة للتدخلات.
خطاب الرئيس كان أكثر من مجرد إعلان نوايا، بل كان وثيقة تحدٍ تُعيد لبنان إلى جوهره كدولة حاضنة للتنوع والحريات. في كل كلمة، كان هناك إصرار على مواجهة الدويلة بمنطق القانون، وإنهاء زمن التهرب من القرارات الدولية، وإعادة الاعتبار للميثاق الوطني كوصفة لاستعادة التوازن الداخلي.
الرئيس الجديد، بخطابه الحاسم، وضع اللبنة الأولى لعهدٍ يعيد الأمل بلبنان الحر، السيد، والمستقل. لم يكن الخطاب مجرد نص سياسي، بل كان فلسفة متكاملة تستعيد فيها الدولة مكانتها كمرجعية وحيدة لكل مواطن. إنها بداية مرحلة جديدة، عنوانها الانتصار للسيادة وسقوط منظومة الدويلة.
في نهاية المطاف، خطاب الرئيس لم يكن مجرد رؤية للمستقبل، بل كان دعوة صريحة للانخراط في معركة بناء الدولة. هذه المعركة ليست سهلة، فهي تتطلب هدم أسس الدويلة التي تجذرت في بنية النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
الرئيس أعلنها بوضوح: لا مكان للدويلة في عهد الدولة. لبنان، الذي عاش طويلاً في ظلال الانقسام والتبعية، أمام فرصة تاريخية لاستعادة هويته وسيادته.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك