وجّه بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان، رسالة عيد الميلاد للعام 2024، بعنوان "النور يُشرق في الظلمات ولم تدركه الظلمات" (يو1: 5)، تناول فيها الأوضاع العامّة في لبنان وبلاد الشرق الأوسط والعالم.
وجاء في الرسالة: "منذ غابر الأزمان والشرق يعيش مخاض الحرّية والتحرّر من نير العبودية والحرب، ومع كلّ ميلاد نتطلّع إلى المخلّص الآتي إلينا بتواضع كلّي في مذود فقير، ليمنحنا الخلاص والنور في ظلامية النزاعات والمآسي التي نعيشها. وها نور ميلاد الرب هذا العام يشعّ في عتمة الحروب التي طالت مختلف أوطاننا في الشرق، مبشّراً بنهايتها، وكلّنا رجاء بأن تنعم هذه البلدان بالأمان والاستقرار والحرّية والديمقراطية الحقيقية، لتعيش جميع مكوّناتها الإثنية والدينية بأمن وسلام، وبالمساواة في الحقوق والواجبات.
في لبنان، كان رجاؤنا كبيراً بانتهاء الحرب التي طالت هذا البلد لأشهر عدّة، وتوقُّف التدمير والقتل الذي تسبّبت به. رحم الله الضحايا، ومنح الجرحى الشفاء العاجل والتامّ، وعسى أن يعود المهجَّرون والنازحون إلى قراهم ومدنهم، ليعيدوا إعمار ما تهدّم. إلى الرب مخلّصنا الذي نحتفل بميلاده العجيب بيننا، نضرع كي تكون هذه المرّة الأخيرة التي يدفع فيها أبناء الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية وسواهم في هذا البلد المعذَّب ثمن حربٍ فُرِضَت عليهم، وكان بالإمكان تفاديها من خلال اللجوء إلى الحلول السلمية عبر الوسائل الدبلوماسية والسياسية.
وفي هذا الإطار، نذكّر المسؤولين اللبنانيين أنّه آن الأوان لإنهاء الفراغ القاتل في سدّة رئاسة الجمهورية، في دولة هي الوحيدة في المحيط العربي التي يرأسها رئيس مسيحي، فيبادر النواب على الفور إلى انتخاب رئيس صاحب رؤية وطنية، جدّي، لا يساوم على مصالح اللبنانيين، لا يشارك في صفقات على حساب وطنه، ولا يُهادِن في سبيل حفظ سيادة أرضه وصونها من أيّ معتدٍ أو مسلَّحٍ أو غريبٍ، كائناً من كان. ويُصار بعد انتخاب هذا الرئيس المُنقِذ، إلى إعادة تشكيل السلطة التنفيذية بحكومة تكون سيّدة قرارها، تحترم الدستور والقوانين والمواثيق والقرارات الدولية وتطبّقها، ويسود أعضاءَها منطقُ حكم دولة القانون. صحيحٌ أنّ التحدّيات جسيمة، وفي طليعتها معالجة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يرزح البلد تحت ثقلها، والتي سبّبت التدهور الذي طال مختلف المؤسّسات والإدارات العامّة والقطاع التربوي والتعليمي وسواه، وسلب الودائع المحتجَزة في المصارف. رجاؤنا أن يشعَّ نور الميلاد في قلوب اللبنانيين المتعطّشين إلى رؤية وطنهم ينهض من كبوته، ويحتضن أبناءه الذين غادروه مرغَمين، لا سيّما الفئات الشابّة، فيستفيد من كفاءاتهم، علّه يسترجع مكانته المرموقة في محيطه، كجوهرة الشرق ولؤلؤة المتوسّط.
وسوريا التي عانت الأمرَّين طوال أكثر من ثلاثة عشر عاماً من حربٍ مدمّرة، إذ استباحت سيادتَها دولٌ وتنظيماتٌ عدّة، شرقاً وغرباً، وتسبّبت بهجرة ما لا يقلّ عن ربع الشعب السوري من أرض وطنه، سوريا هذه، نراها اليوم مقبِلةً على تحوّلات كبيرة تجعلنا في زمن الميلاد نصلّي إلى الطفل الإلهي الآتي إلينا، كي يشرق نوره في عتمة الحرب، ويضيء ظلمة هذه الأيّام الحالكة، فتنتهي الأزمات العنيفة التي كادت تدمّرها. وهنا ندعو إلى انتقال سلمي للسلطة في سوريا، يوفّر لكامل شعبها السلام والاستقرار والحرّية، وتسوده ثقافة المسامحة والمصالحة والمساواة وقبول الآخر، لا اللجوء إلى التشفّي والانتقام. كما نتمنّى من المسؤولين الذين سيختارهم الشعب السوري ليتولّوا دفّة قيادة البلاد في المقبل من الأيّام، أن يساهموا في توطيد أواصر اللحمة بين جميع المواطنين، فينتهجوا سياسة احترام حقوق مكوّنات الشعب كافّةً، بتعدّدية إثنياتها وقومياتها، والمحافظة على هوية كلٍّ منها وعاداته وتقاليده ولغته، مع التشديد على أنّ المسيحيين بمختلف مذاهبهم هم مكوِّن أصيل ومؤسِّس في هذا البلد، ومن الواجب صون حرّيتهم في ممارسة شعائرهم الدينية، وفي التعليم، والحفاظ على النظام الخاصّ بأحوالهم الشخصية، وإدارة أوقافهم.
كما نناشد المجتمع العربي والدولي لتفعيل مساعي إعادة إعمار ما تهدّم خلال سنوات الحرب على مختلف الأصعدة، من بنى تحتية واقتصادية وزراعية وصناعية، كي ينهض هذا البلد ويعود إلى مصافّ الدول المزدهرة.
وفي العراق، حيث التحدّيات لا تزال كثيرة إزاء الأزمات السياسية والاقتصادية، وحيث المكوِّن المسيحي هو أصيل ومؤسِّس، وله دور ريادي في نهضة هذا البلد، نتمنّى أن يتابع أبناؤنا تقديم مساهمتهم في الحياة العامّة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، أسوةً بشركائهم في الوطن، فيساهموا بكفاءاتهم في بناء بلدهم وتقدُّمه وازدهاره، مدنياً وحضارياً. ونأمل أن يتمكّن الذين يتولّون زمام المسؤولية من تجنيب البلاد التورُّط في حروب وصراعات محلّية وإقليمية لن تقدّم سوى الدمار والموت والأسى وازدياد الهجرة. كما أنّنا نرفع صلاتنا كي تتضافر جهود جميع المسؤولين الشرفاء للوصول إلى استقرارٍ مستدامٍ لبلاد الرافدين الغالية.
وفي الأراضي المقدسة، التي منها انبثق نور الطفل الإلهي المولود في بيت لحم، وانتشر في أرجاء المعمورة، نصلّي كي تنتهي الحرب والمأساة التي طال أمدها، وتنفَّذ القرارات الدولية، من حلّ الدولتين، وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي الذي امتدّ لعقود طويلة. فليس هناك سلام دائم وشامل دون انتهاء الصراع القائم، بحيث لا يحقّ للمخلّين والطامعين أن يستغلّوا المشاعر الإثنية والدينية، ويجهزوا على هذه القضية السامية، فيورّطوا منطقة الشرق الأوسط بحروب لا تنتهي. وإنّنا نحثّ المسؤولين على العمل الجادّ كي تمارَسَ التعدّدية وقبول الآخر، ليشرق نور الخلاص من جديد في هذه الأرض المباركة.
وفي مصر والأردن وبلدان الخليج العربي، نعرب عن ارتياحنا لما تقوم به السلطات في هذه البلدان العزيزة في رعايتها شؤون المواطنين، وسعيها الدؤوب لتأمين الرخاء والازدهار، وسط جوٍّ من الألفة والمودّة والتسامح.
وفي تركيا، نعتزّ بأبنائنا الذين يستمرّون بتأدية شهادتهم للرب في أرض الآباء والأجداد، والتزامهم بكنيستهم السريانية، وعيشهم بحرّية وكرامة وبالمواطنة الكاملة، ونتابع مع الغيارى المساعي لاستعادة مقرّ بطريركيتنا في ماردين.
وإلى أبنائنا وبناتنا في بلاد الانتشار، في أوروبا والأميركتين وأستراليا، نتوجّه بفكرنا الأبوي ونحن نسعى جاهدين مع رعاتهم المباشَرين من أساقفة وكهنة كي نوفّر لهم الخدمة الكنسية الروحية والراعوية، ونشجّعهم على التمسُّك بإيمانهم بالرب يسوع المخلّص، ومتابعة التزامهم بكنيستهم السريانية وتقاليدها العريقة ولغتها وتراثها الثمين، محافظين على أمانتهم للقِيَم والمبادئ والعادات التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم في أوطانهم الأمّ في الشرق، ومخلصين لأوطانهم الجديدة التي استقبلَتْهم وفتحت أمامهم المجال واسعاً لبناء مستقبل زاهر لهم ولعائلاتهم بالحرّية والكرامة. كما نوصيهم أن يحافظوا على قدسيّة العائلة، وعلى تربية أولادهم التربية المسيحية الصالحة، في خضمّ تحدّيات العلمنة والإلحاد والإغراءات المتزايدة. كما نحثّهم على القيام بأعمالٍ ومبادرات محبّةٍ يمليها عليهم حسّهم الأخوي وانتماؤهم العائلي والكنسي، فيساهموا قدر استطاعتهم في دعم الكنيسة والمؤمنين في بلاد الشرق، حيث تكبر المعاناة، وتتفاقم التحدّيات، وتزداد الحاجات المادّية، متذكّرين ما جاء في سفر أعمال الرسل: "فعزمَ التلاميذ أن يُرسلوا حسبما يتيسّرُ لكلّ واحدٍ منهم، إسعافاً للإخوة المُقيمين في اليهودية" (أع 11: 29).
ولا ننسى أن نجدّد صلاتنا إلى الرب يسوع، المولود طفلاً في مذود بيت لحم، من أجل انتهاء الحرب بين أوكرانيا وروسيا، وحلّ كلّ نزاع في العالم بالحوار والتفاوض والتفاهم، والتوقّف عن سفك الدماء وتدمير البشر والحجر.
كما نجدّد مطالبتنا بالإفراج عن جميع المخطوفين، من أساقفةٍ وكهنةٍ وعلمانيين، سائلين الله أن يرحم الشهداء، ويمنّ على الجرحى والمصابين بالشفاء التامّ. ونعرب عن مشاركتنا وتضامننا مع آلام ومعاناة المعوزين والمهمَّشين والمستضعَفين، وكلّ العائلات التي يغيب عنها فرح العيد بسبب فقدان أحد أفرادها، ضارعين إلى الله أن يفيض عليهم نِعَمَه وبركاته وتعزياته السماوية.
ويهمّنا أن ننوّه إلى أنّ قداسة البابا فرنسيس قد أعلن عام 2025 سنة يوبيلية، حول موضوع الرجاء، بعنوان "الرجاء الذي لا يخيِّب"، تُفتتَح ليلة عيد الميلاد. إنّنا نوجّه جميع أبنائنا وبناتنا الروحيين في العالم لعيش هذا اليوبيل، فنفعِّل إيماننا المؤسَّس على الرجاء بأنّ الله لا يتركنا، بل يبقى معنا وسطَ كنيسته، لنسير معاً خلال هذه السنة كحجّاج رجاء، لا سيّما وقد أنهينا للتوّ مسيرة السينودس الروماني حول "الكنيسة السينودسية: شركة ومشاركة ورسالة". فالرجاء النابع من ثقتنا التامّة بالله الذي عليه اتّكالنا، كما ننشد في طقسنا السرياني: "ܥܰܠ ܐܰܠܳܗܳܐ ܬܽܘܟܠܳܢܰܢ" ليس مجرّد تفاؤلٍ أو شعورٍ إيجابي أو أملٍ عابر تجاه المستقبل، بل هو فضيلة راسخة والتزام مستمرّ لصالح الخير لحياتنا وحياة الآخرين.
إلى طفل بيت لحم الإلهي نبتهل كي يُضحيَ يوبيل الرجاء هذا "فرصة حقيقية لبلوغ وقفٍ لإطلاق النار في كلّ النزاعات الدائرة في العالم"، على حدّ تعبير قداسة البابا".
وفي كلمته الروحية، تحدّث البطريرك عن "نور الميلاد الذي يضيء كلّ ظلمة، وهو النور المتألّق والذي لا يُطفَأ، ومانح الرجاء الذي لا ينتهي ولا يخيِّب، لافتاً إلى أنّ نور الميلاد يشعّ في عتمة الحرب، وهو كلمة الحياة، وفيه أعلن الله سرّ محبّته. فما أسعدنا حين نقبل بشرى ميلاد مخلّصنا، إذ أنّ سرّ التجسّد ينير سرّ الإنسان، منوّهاً إلى أنّ الميلاد هو زمن الرجاء والسلام وعيد الفرح، مشدّداً على أنّ يسوع المسيح هو رجاؤنا الأزلي، ومتوجّهاً بالتهنئة إلى المسيحيين والعالم بعيد الميلاد المجيد وبحلول العام الجديد".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك