كتب ريمون مارون - مركز Meirss
على مدى عقود، عاش لبنان في ظل معادلة سياسية وأمنية فُرِضت عليه بقوة السلاح وتواطؤ الإقليم. كان حزب الله، الذراع العسكرية والسياسية لإيران في لبنان، رأس الحربة في مشروع "الممانعة"، الذي طالما استنزف سيادة الدولة اللبنانية، وقوّض مؤسساتها، وأعاد صياغة التوازنات الداخلية بما يخدم مصالح خارجية. ومع ذلك، فإن المشهد اليوم يتغير جذريًا، خاصة مع سقوط نظام الأسد في سوريا، الذي شكل العمود الفقري لاستمرارية هذا المحور، وركيزة الدعم اللوجستي والسياسي لحزب الله.
لا يمكن فهم سقوط حزب الله في لبنان من دون الإشارة إلى المتغيرات الإقليمية الحاسمة. فقد تآكل نفوذه داخليًا بفعل سلسلة من الهزائم العسكرية والسياسية والشعبية، من بينها العزلة الدولية، تفكك القاعدة الشعبية. ولكن الضربة الأكبر جاءت من الخارج، حيث أدى سقوط نظام الأسد إلى قطع شريان الحياة الاستراتيجي للحزب.
لطالما شكل نظام الأسد الأرض المفتوحة أمام إيران لإمداد حزب الله بالسلاح والمال. كان هذا النظام "الوسيط الجغرافي" الذي سمح للمشروع الإيراني بالتوسع غربًا، ليصبح لبنان قاعدة أمامية لتوجيه النفوذ الإيراني في المنطقة. سقوط هذا النظام، الذي امتد على مدى 55 عامًا من الحكم القمعي وسلب الحريات، يمثل نقطة تحول محورية، ليس فقط لإنهاء الهيمنة السورية على لبنان، ولكن أيضًا لإنهاء حزب الله العسكري.
تلعب القرارات الدولية، ولا سيما القرار 1701، دورًا كبيرًا في تقويض نفوذ حزب الله. تطبيق هذه القرارات، التي تنص على نزع السلاح من المليشيات واحترام السيادة اللبنانية، يعني وضع حد للتفلت العسكري الذي سمح للحزب بالسيطرة على القرار اللبناني. وقد أعطى المجتمع الدولي إشارات واضحة إلى أن أي مستقبل للبنان لا يمكن أن يُبنى إلا على سيادة الدولة والقانون.
ومع سقوط الأسد، لم يعد بإمكان الحزب الاعتماد على الدعم اللوجستي الذي كان يأتي عبر الحدود السورية. كما أن البيئة الإقليمية المتغيرة، مع تصاعد الضغط على إيران وميل الدول العربية نحو عزل النفوذ الإيراني، زادت من عزلة حزب الله، ما جعله مكشوفًا أمام شعبه وأمام خصومه السياسيين.
نظام الأسد لم يكن مجرد حليف لحزب الله، بل كان الركن الأساسي لمحور الممانعة. بفضل الدعم الإيراني والغطاء الروسي، استطاع الأسد البقاء لفترة أطول مما توقعه المراقبون، ولكن انهياره كان مسألة وقت. سقوط هذا النظام يعني عمليًا انهيار هذا المحور بأكمله، لأنه كان يشكل الحلقة الأهم في سلسلة النفوذ الإيراني الممتدة من طهران إلى بيروت.
بغياب الأسد، تفقد إيران قدرتها على استخدام سوريا كممر استراتيجي. ولن يكون بإمكانها دعم حزب الله بالسهولة التي كانت عليها في الماضي. بل إن هذا السقوط يفتح الباب أمام تحول جذري حيث تقطع خطوط الإمداد وتحد من النفوذ الإيراني، مما ينعكس بشكل مباشر على تراجع حزب الله في لبنان.
إن سقوط نظام الأسد، وخسارة حزب الله لمكانته، يحملان دلالات عميقة للبنان. لقد دخل هذا البلد مرحلة جديدة، حيث لم تعد الهيمنة الخارجية قادرة على تحديد مستقبله كما كانت في الماضي. ومع ذلك، فإن هذه المرحلة تتطلب من اللبنانيين أنفسهم اغتنام الفرصة التاريخية لتعزيز دولتهم ومؤسساتهم.
يجب أن يكون هناك إجماع وطني على احترام السيادة اللبنانية، ونزع السلاح من كل القوى الخارجة عن الدولة، والعمل على بناء نظام سياسي يعيد للبنان موقعه كدولة تعددية ديمقراطية، تقوم على احترام القانون وحقوق الإنسان.
سقوط نظام الأسد ليس مجرد حدث إقليمي؛ إنه زلزال سياسي يغير موازين القوى في المنطقة. ومع خسارة حزب الله لنفوذه وهيمنته، تتاح للبنان فرصة نادرة للعودة إلى مسار السيادة والحرية.
ولكن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع. على اللبنانيين أن يدركوا أن هذه اللحظة التاريخية تتطلب وحدة وطنية، وإرادة سياسية صلبة، لبناء دولة قادرة على حماية كيانها وشعبها من أي محاولة جديدة للهيمنة.
فلبنان، الحرية والكيان، باقٍ رغم كل العواصف.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك