كتب ريمون مارون من مركز الشرق الاوسط للابحاث والدراسات الاستراتيجية MEIRSS:
في ظل الحرب الدائرة بين حزب الله وإسرائيل، تجلت أمام أعيننا مشكلة متجذرة في المجتمع اللبناني، حيث يبدو التعدي على الأملاك العامة ليس مجرد حاجة مؤقتة فرضتها ظروف النزوح أو الأزمات الطارئة، بل ثقافة متأصلة ترتبط بممارسات جماعات معينة وبخاصة جمهور أحزاب الممانعة، وتحديداً حزب الله.
أصبح هذا الواقع أكثر وضوحًا مع النزوح الكثيف لأهل الجنوب وسكان الضاحية الجنوبية لبيروت، هاربين من ويلات الحرب، حيث لجأ الكثيرون إلى أماكن خارج مناطق النزاع، وتنامت مظاهر التعدي على الأملاك العامة بصورة مقلقة. ومع ذلك، ما نشهده اليوم ليس حالة استثنائية ناتجة عن اضطرار أو حاجة ماسة، بل امتداد لثقافة قائمة تتجاوز الأزمات وتستغل الظروف لتوسيع النفوذ والتحكم في المساحات العامة.
التعدي كأداة للهيمنة
التعدي على الأملاك العامة في لبنان ليس ظاهرة جديدة، بل هو جزء من منظومة تتجاوز البعد الاقتصادي أو الاجتماعي المباشر. في مناطق النزوح، وفي خضم الحرب، يمكن أن يُفهم التعدي كوسيلة للبقاء، لكن ما يثير التساؤل هو كيف تحول إلى أداة للتوسع السياسي والاجتماعي. حزب الله، الذي يقدم نفسه كقوة مقاومة، استفاد من هذه الممارسات لترسيخ قاعدة جماهيرية تدين بالولاء له، سواء من خلال تأمين السكن أو الخدمات الأساسية. هكذا، لم يعد التعدي على الأملاك العامة مجرد استجابة لحاجة مؤقتة، بل أصبح وسيلة لتعزيز النفوذ وإثبات السيطرة على الأرض، حتى في مناطق ليست بالضرورة تحت سيطرة الدولة.
عندما تصبح الأملاك العامة أداة للتفكيك الاجتماعي
التعدي على الأملاك العامة يتعدى البعد المادي. فالممتلكات العامة ليست فقط مساحات مادية، بل تجسد مفهومًا أعمق يرتبط بالعدالة الاجتماعية والمواطنة. التعدي على هذه الأملاك يُعتبر تعديًا على فكرة "المشترك"، ذلك الذي ينتمي للجميع، والذي من خلاله يحقق المجتمع توازنه. ما يحدث اليوم مع جمهور أحزاب الممانعة هو تقويض لهذه الفكرة، حيث تُصبح المصلحة الجماعية مهددة، وتتحول الأماكن العامة إلى مساحات خاضعة للتقسيم السياسي والطائفي.
إضافة إلى ذلك، يجب ألا نغفل عن أن هذا التعدي يُسهم في تعميق الفجوة الاجتماعية بين مكونات المجتمع اللبناني. فكلما توسعت رقعة السيطرة غير المشروعة على الأملاك العامة، تضاءلت مساحة "الحياد" التي يمكن أن تجمع اللبنانيين على قدم المساواة. وبهذا، يصبح المجتمع نفسه ضحية التفكيك المتواصل على أسس حزبية وطائفية.
التعدي كآلية دفاع أم تجاوز للحق؟
في ظل النزوح الذي يشهده لبنان اليوم نتيجة الحرب، يمكن تبرير بعض التعديات على أنها استجابة لظروف قاهرة. إلا أن هذا التبرير لا يمكن أن يكون مستدامًا أو مبررًا على المدى الطويل. ما يحدث فعليًا هو أن التعدي على الأملاك العامة تجاوز فكرة الدفاع عن الحقوق الإنسانية في الأزمات، وتحول إلى ثقافة مستدامة تُستخدم لتعزيز مواقف سياسية وتثبيت مكاسب غير مشروعة.
إن هذا التعدي يضعنا أمام سؤال أعمق حول معنى الملكية العامة والحقوق المشتركة. هل يمكن اعتبار "الحاجة" ذريعة كافية لتجاوز القانون والمساس بحقوق الآخرين؟ وهل يمكن اعتبار هذه التعديات جزءًا من مفهوم العدالة الاجتماعية في بلد يعاني من ضعف الدولة وغياب الحوكمة؟ يبدو أن الإجابة واضحة: التعدي على الأملاك العامة، حتى في أشد الأزمات، يجب أن يُنظر إليه بعين الحذر، لأنه ليس مجرد مشكلة مؤقتة، بل يمثل تهديدًا دائمًا لفكرة الدولة والقانون.
نحو ثقافة جديدة للاحترام المشترك
إذا كان النزوح والمآسي الإنسانية جزءًا من الحرب القائمة بين حزب الله وإسرائيل، فإن الحلول المطروحة لا يمكن أن تقتصر على تجاوزات فردية أو جماعية على الأملاك العامة. يجب أن يكون هناك إعادة تقييم لمفهوم الملكية العامة، ليس فقط من منظور قانوني، بل من منظور أخلاقي واجتماعي. فبدون هذا الوعي، ستظل الأملاك العامة ضحية النزاعات، وسيظل لبنان يرزح تحت عبء التفكك الاجتماعي والهيمنة السياسية.
الأزمة التي يعيشها لبنان اليوم تستدعي منا إعادة التفكير في كيفية بناء دولة تحترم الملكية العامة كمفهوم مشترك، وكيفية التصدي لثقافة التعدي التي باتت تتغلغل في بنية المجتمع. ففي النهاية، التعدي على الأملاك العامة ليس مجرد تجاوز للقانون، بل هو تجاوز لفكرة المواطنة ذاتها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك