كتبت راغده درغام في "النهار العربي":
لن تنتهي فترة الترقب والانتظار والقبوع في ظل عدم اليقين من مصير الحروب الجديدة والقديمة ما دام الحسم مؤجلاً، إما عمداً أو نتيجة الفشل وسوء الحسابات. فترة الانتخابات الرئاسية الأميركية تزيد من الرغبة في شراء الوقت للمغامرة أو للمقامرة على من سيفوز بالبيت الأبيض وكيف يؤثر ذلك على الملفات المعنية، إما بالحروب المؤجلة أو بالصفقات. من حرب روسيا في أوكرانيا والآن حرب أوكرانيا في الأراضي الروسية، إلى حروب محور إيران لمقاومة إسرائيل نيابة عنها بالوكالة أو باستقلالية القراصنة كما يفعل الحوثيون في البحر الأحمر. من مناشدة نساء السودان في وجه الرئيس عبد الفتاح البرهان "أوقف الحرب يا برهان"، إلى صراخ أمهات أطفال غزة وآبائهم "كفى حرباً، تعبنا" من الألم والتشريد ودفن الأحباء. لهم جميعاً، ولغيرهم في العالم، كالعراق ولبنان وسوريا على سبيل المثال، أن عنوان المرحلة المقبلة أقله حتى نهاية هذه السنة، هو استمرار القلق من المجهول والتأرجح بين الحروب الفاشلة والصفقات التي تنتظر المزيد من سفك الدماء.
السودان مأساة بصناعة داخلية بالدرجة الأولى، ثم تضاف إليها مصالح دول تغمض عيونها على ما يقتضيه تحويل السودان من دولة العنف العنيف إلى تلك اللحظة التي عبرت حاملة الأمل بصلح وبسلام. حرب السودان المريرة لن تنتهي قريباً، فما زال هناك مجال لسفك الدماء وتلذذ الرجال بعِصاهم المرفوعة فيما النساء تناشد ببكاء فوق هتافات الرجال "يا برهان"- أنهِ هذه الحرب يا برهان.
حرب روسيا وأوكرانيا لن تصل إلى نهايتها هذا العام. هذه هي السنة الثالثة للحرب التي سمّتها روسيا "عمليات خاصة" كانت تظن أنها ستنتهي بسرعة بفرض الإدارة الروسية على الأراضي التي تعتبرها روسية داخل أوكرانيا، وكذلك كانت تظن أنها ستؤدي إلى زوال فولوديمير زيلينسكي وحكومته.
اليوم، وبعد مرور 923 يوماً على بدء الحرب في أوكرانيا، لا بريق أمل في الأفق على انتهائها عام 2024، بل سيكون استمرارها في 2025 أكثر خطورة. الروس يقارنون بين عدد أيام هذه الحرب والحرب العالمية الثانية التي دامت 418 يوماً من تاريخ دخول الاتحاد السوفياتي طرفاً فيها. حينذاك، يقول صديق خبير في تاريخ الحرب والسلم في روسيا: تمكنت روسيا من تحرير منطقة دونباس في غضون شهر ونصف. اليوم، استعادت روسيا ألف كيلومتر مربع من أوكرانيا وببطء شديد. لكن مساحة أوكرانيا حوالي 474 كيلومتراً والروس يتساءلون كم يستغرق فرض السيطرة على أوكرانيا من الوقت في ظروف كهذه؟
هذه الظروف الجديدة التي قضت على محاولة جمع أفكار إيجابية لمفاوضات بين روسيا وأوكرانيا شملت سماح بريطانيا لأوكرانيا باستخدام صواريخ "ستورم شادو" لضرب عمق الأراضي الروسية، من دون إذن أميركي. لندن لن تكشف علناً عن هذه الخطوة لأن الولايات المتحدة تتحفظ عن فكرة ضرب العمق الروسي بصواريخ غربية. مدينة كورسك هي العنوان الأساسي في إقدام أوكرانيا على عمليات عسكرية داخل الأراضي الروسية، وهي أيضاً عنوان مهم في بسيكولوجية الحرب الروسية - الأوكرانية.
هذه أول مرة منذ 1941 تدخل فيها قوات أجنبية إلى الأراضي الروسية، وتتسبب في تهجير أكثر من 133 ألف شخص، وتهدد محطة كورسك النووية التي تبعد مجرد 40 كيلومتراً عن المدينة. هذه التطورات هي مؤشر إلى ضعف روسيا وصفعة بسيكولوجية كبيرة للشعب الروسي.
فالإهانة لا تنحصر في سيطرة أوكرانيا على أراضٍ روسية بل يضاف إليها الخوف من كارثة تشيرنوبيل أخرى لأن محطة كورسك النووية ليست محميّة من الصواريخ. الرئيس فلاديمير بوتين اتهم أوكرانيا بالعزم على ضرب مفاعل كورسك، والوكالة الدولية للطاقة الذرية استنتجت أن الوضع بالغ الخطورة.
الدبلوماسية الروسية مستاءة قليلاً من الدبلوماسية الهندية لأن رئيس الوزراء ناريندرا مودي الذي اقترح قمة سلام بين بوتين وزيلينسكي تستضيفها الهند اعترف بشرعية الرئيس الأوكراني، وهذا مهم ومزعج لروسيا الصديقة للهند. لكن الذي قتل آمال اللقاء والتفاوض ليس دعوة أي طرف إلى التوسط بينهما، بل هو عملية كورسك التي فاجأت روسيا وبعض أعضاء حلف الناتو لكنها أتت بغطاء ومشاركة فعلية لدولٍ في حلف شمال الأطلسي.
الحرب الروسية - الأوكرانية أصبحت ذات بعد عالمي أكثر مما هي حرب محلية، وهي أصبحت عنصراً من عناصر الحملة الانتخابية للرئاسة الأميركية. الرئيس السابق دونالد ترامب يسوّق أفكاراً له لإنهاء الحرب إذا عاد إلى البيت الأبيض ويلوم الرئيس الحالي جو بايدن على تشجيع الحرب بين الناتو وروسيا.
أوكرانيا تبقى أولوية أوروبية أكثر مما هي أولوية أميركية، ورغم ذلك، للانتخابات الأميركية وطأة على أوكرانيا وحربها مع روسيا، كما على مستقبل حلف الناتو في هذه الحرب التي لا نهاية لها في الأفق، بالتأكيد ليس في عام 2024.
فحتى لو كانت لدى دونالد ترامب رغبة في الضغط على الطرفين، فهو لن يتسلم البيت الأبيض كرئيس قبل كانون الثاني 2025. وما سيحدث ميدانياً هو المزيد من التصعيد وصعوبة الحرب مع قدوم الخريف. ثم إن هذه هي المرة الأولى التي تضطر فيها الطائرات الروسية لقصف أماكن سبق لها أن حررتها. ولهذا الأمر أيضاً وطأة بسيكولوجية.
اللافت هو أن هذه الحرب لا تستولي على الانتخابات الرئاسية الأميركية سوى من منطلق الاتهامات المتبادلة بشأن العلاقة مع فلاديمير بوتين والعلاقات عامة بين أميركا وروسيا.
حرب غزة تفرض نفسها أكثر، أولاً، لأنها ذات علاقة بإسرائيل التي يتعهد المرشحان للرئاسة، الديموقراطية كامالا هاريس، والجمهوري دونالد ترامب دعمها المطلق وهي "تدافع عن نفسها". ثانياً، لأن حرب إسرائيل على غزة عرّت البشاعة الإسرائيلية الرسمية والشعبية باستهتارها بأرواح المدنيين كما كشفت مدى الدعم الشعبي للأيديولوجية الإسرائيلية القائمة على رفض حل الدولتين، وترحيل الفلسطينيين وإبعادهم قسراً، وفرض الأمر الواقع تلو الآخر. سحق حركة "حماس" هو تعهّد إسرائيلي وليس أيديولوجية قديمة العهد. فإسرائيل ساهمت في صنع "حماس" لتقضي على حركة "فتح" التي وقّعت اتفاقية أوسلو وباتت الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين باعتراف دولي، والتي آمنت بتحقيق حل الدولتين.
ما دامت محاولات احتواء حرب غزة ترقيعية وانتقالية وإرضائية وموقتة وبصفقات غامضة ليس فقط بين إسرائيل و"حماس"، بل أيضاً بين إدارة بايدن وإيران، لن ينتهي القبوع في ظل القلق وترقب حروب صغيرة أو كبيرة.
ما دام "حزب الله" وإسرائيل يتفقان على قواعد اشتباك ويتخطى واحد منهما هذه القواعد بعد إبلاغ الآخر، لن يستقر لبنان ولن يعود شباب لبنان إلى العمل في بلادهم، ولن ينتقل هذا البلد الحزين الممزق إلى العيش بأمان في ظل دولة ذات سيادة وحكومة ذات سيادة بدلاً من القبوع تحت إمرة قيادة "حزب الله" ومزاجها وحساباتها وقيادة إسرائيل والقيادة الإيرانية.
كما نساء السودان وأمهات غزة، كذلك عائلات لبنان من مختلف الطبقات والتوجهات السياسية في أرقٍ، تحمل هموم الغد على وجوهها المتطلعة لإجابة تطمئنها: شو؟ خلصت الحرب؟ لا يكفي أن يطمئن الأمين العام لـ"حزب الله" أن بإمكان الذين أصابهم الهلع وهربوا إلى أماكن أكثر أماناً بقوله "يمكنكم العودة". فهذا ليس طمأنينة دائمة، ولا احتراماً لحاجة لبنان إلى سيادة الدولة والعيش بأمان، ولا هو ضمان بعدم الانجرار إلى فخ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وفخ العقائديين مثله لتوريط لبنان في حرب موسّعة لن يربحها أحد الطرفين.
حرب غزة ستبقى في فراغ وربما تدخل طي النسيان والإهمال في الشهرين المقبلين ما لم ينجح تفاؤل فريق بايدن ويتم التوصّل إلى صفقة وقف النار والإفراج عن الرهائن والسجناء، إلى جانب صفقة مجهولة المعالم مع إيران، لا سيّما بعد عودة محمد جواد ظريف ـ مهندس الاتفاق النووي بين أميركا وإيران في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما ـ إلى منصب مستشار الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية.
كل ذلك الرهان من قِبَل "حماس" عبر عمليات 7 تشرين الأول على تغيير جذري في الرأي العام الأميركي والعالمي سيلاقي صدمة الواقعية السياسية. العواطف لا تصنع سياسة دول. وعمليات كتلك في 7 تشرين الأول لا تغيّر مجرى التاريخ، كما تتصور "حماس" ومحور المقاومة معها.
مصلحة لبنان ومصلحة "حزب الله" ليست في ربط مصير لبنان بمصير غزة. حان الوقت للفصل بين الاثنين والكف عن لعبة المساندة وعمليات إنقاذ ماء الوجه. فإيران تفاوض وراء الأبواب المغلقة مع الأميركيين من دون أن تلجأ لاستشارة "حزب الله" أو "حماس" أو الحشد الشعبي في العراق أو الحوثي في اليمن. إنها لغة المصالح بين الدول.
مع نهاية العام قد ينتهي موضوع غزة لأن لا "حماس" قادرة على الاستمرار في الوضع الراهن، ولا إسرائيل قادرة على حرب استنزاف أو حرب تصفيات مفتوحة الأفق والزمان. قد تكون المرحلة المقبلة مرحلة انتقالية هادئة نسبياً إلى حين انتهاء الانتخابات الأميركية في شهر تشرين الثاني بقرار إيراني.
أما الحوثي فإنه يزعم الاستقلالية عن قرار إيران وهو يضع منافع القرصنة المالية فوق كل اعتبار. ليته يتنبه قليلاً ويشفق على الشعب اليمني الذي يواجه كارثة تفشي الكوليرا عقب الفيضانات. وليت القوى الدولية كافة، من الغرب إلى الصين وروسيا، تتخذ قراراً مستبعداً عليها التفكير به وهو التفكير ولو لمرة بعواقب الصمت على كوارث السياسات والمغامرات في اليمن والسودان كما في غزة ولبنان.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك